رأيمستجدات

مسؤولية الفاعــل السياسي والإعلام

بقلم الأستاذ عبد الله الفردوس //

كل متتبــع لواقــع المشهـد السياسي لا يمكنــه إلا الإقرار بأن الصور والقــراءات التي تنقــل عـن هــذا الواقع تتفــاوت وتتبايــن ليس فقــط بين النخــبة الأكاديمية من المتتبعين وبيـن الفاعليـن في هذا الحقــل وفي تنظيمــاته، بــل إن التبايــن والتباعــد في قــراءة واقــع وأفق الحيـــاة السياسية، والحقــل الحزبي بالخـصـوص، حــاصل حتى بيـــن الفاعليــن فيــه والمؤطرين لحــركيتــه.
على أن الموضوع كثيرا ما يظهــر بشكل أكثــر إثارة، أو بأساليب كاريكاتوريــة، مـن خـلال بعض المنابر الإعلامية أو وسائل التواصل الحديــثة، حيث تطلق كل النعــوت والأوصاف الممكنــة عبـــر خــطاب إعلامي/ سياســي، صار هو نفســه عنصــرا من عناصــر إربــاك المشهــد السياســي وتمييـــع وتبخيــس صورتــه لــدى المتلقــي ولدى عمــوم المواطنيــن.
ففـي الشهـور والأيـــام الأخيــرة توالت الحملات الممنهــجة لهــذا الخطاب التي تتمحــور كلــها حول صياغــة صـك (نهــاية) الأحزاب وإعلان إفلاسها، مستنــدة في ذلـك عـلى بعــض الأحـداث و(التقييمات) التي يتم ترويجها و(تكييفــهـا) في الاتــجاه المفــضي نحــو خلق المـزيد من الضبابيــة وإربــاك الفعــل السياسي المنظــم، ومن الأمثلــة المتعددة عـن ذلك نـشيــر إلى:
*عــدم تمكــن المواطنين مــن الاطــلاع على الحقـــائق الكامـلة لبعــض القضايا المتــداولــة، لاسيما منها تلــك المتصلة بتدبير الشأن العام والمؤسسات المنتخبـــة والتي لا يذهب تناولها إلى مـــداه المنطقـــي…
* التأويلات التي تعــطى للاختلافات التي تحصل في وجهات النظر ومواقف الأحزاب السياسية حـول قضايا محــددة، سواء خلال الفتـرات الانتخابيـة أو غيرها مـن المحطــات.
* ضعف دور وحجم قنوات الإعلام العمــومي في تنشيـــط الحوار السياسي والنقــاش العمــومي حــول مختلف الإشكالات والقضايا السياسيــة والاجتماعيـة، من أجل إشراك المواطن ووضعـه فــي الصورة وتبسيــط الوقائــع أمـامه.
* تقــديم بعض الظواهر الاجتماعية أو الاحتجاجيــة وكأنها تشكل، في حـد ذاتها، حالة غير مسبوقـة، وأنها قــد تكــون بمثابة (البديل المنتظر) للأحزاب السياسيــة.
عـلاوة على مثــل هذه النمـاذج، فالمعروف أيضا أن الخــطاب السياسي لبعض الأحزاب السياسية تميز بـدوره، خلال محطات معروفة، بالوقوع فــي منزلقــات ما كان لها إلا أن تساهــم في المساس بمستــوى جــدية ومسؤولية الفاعل السياسي، وهو ما يخــالف الحاجــة إلى تحصيـن المشهد السياسـي من السلوكات العبثيـــة وتأهيــل مختلف آلياتـــه التنظيميــة والتواصليــة لتكـــون في مستــوى الأدوار والمهـــام التي أنــاطها بهــا الدستــور، وقادرة على الاضطــلاع بــرفع التحــديات الموضــوعة أمام البــلاد في مختلف الميــادين.
فالفصل السابــع من الدستور ينص، في فقرتــه الأولى، على أن الأحزاب السياسية تعمـل “عـلى تأطير المواطنات والمواطنيــن وتكــوينهم السياســي، وتعــزيز انخــراطهم فــي الحيــاة الوطنيـة، وفي تدبيــر الشأن العـام، وتساهم في التعبيــر عـن إرادة الناخبيــن، والمشـاركة فـي ممارسة السلـطة، على أسـاس التعـددية والتناوب، بالوسائل الديمقراطيـة، وفي نـطاق المـؤسسات الــدستوريـــة ” فهذه الفقــرة وحـدها كافيــة للدلالـة عـلى الأهمية التي ينبغــي أن يحـاط بـها الحقــل السياســي وعلى حجــم وطبيعــة المسؤوليـات والمهام المنتظــر من كــل الفاعلين المعــنيين الاضطــلاع بـــها، ســواء كانوا في مواقـع ممارسة تدبير الشأن العام، أو فــي صفوف المعارضـة، أو في غيــر ذلك مـن المواقع والإطــارات، بما فيــها المؤسسات الإعـــلامية التي لا يتصــور أن تكـــون خارج الحيـــاة السياسية للبـــلاد أو منعــزلة عـن تفاعلاتــها.
والإعلام، أو الخطاب الإعلامي/ السياسي، بسلطتــه وتعـدد وتطور وسائلــه، لا يقــل عن المؤسسات السياسيـة الأخـرى، في كــل مجتمــع ديمقراطــي تعــددي، بــل إن وســائل الإعلام وحــرية التعبيــر تشكــل أحــد الركــائز الأساسيــة للممارســة الديمقراطيـة، ولذلك فإن ما تحقــق للمغرب في هــذا الميــدان ليــس فقط من المكتسبات التي يحق الاعتــزاز بها، ولكن هــي أيضا مــن الآليات التي تساهـــم اليوم في مواصلة وتعزيز البنــاء الديمقراطي، وهنا يجـدر التذكير بما جــاء في رسالة جلالة الملك، بمناسبة تخليد اليوم الوطنــي للإعلام (2002)، حيث قال جــلالته :”لقـد اعتمدت بــلادنا التعـدديـة السياسيـة خيـارا لا رجعة فيـه، ومنهـاجا قـارا لبنـاء مجتمعهــا الديمقراطي، ويقتضي هـذا الخيار إقامــة نظام ومؤسسـات تخضــع لقــواعد الديمقراطية، كما أنـه يرتكز على تأهيـل المبادرة الوطنيــة لتمكينــها مـن أفضــل شروط الأداء والممارســة، فــي كافة المجــالات، وفي سيـاق يتميـز بالمنافســة الشـديدة والتسابـق المحمـوم، ويستوجب هــذا الخيار كـذلك إقـــامة دولــة الحق، حيث يســود القانون، روحـا ومنطـوقا، ويصبح الجميــع ملزميـن بـه، حيثما كانوا، ومهمـا تكـن حيثيـاتهم، وفق نفــس الشروط، وذلكم هو الاختيــار الذي آلينـا على نفسنــا المضـي به بشكل لا رجعة فــيه، مقـدرين حق القـدر ما يتطلبه إنجــازه من ثمــن. وهو ثمـن قــوامه الالتــزام بالتعـايش والانسجــام، والحفــاظ على الوحــدة في ظــل الاختــلاف، واحتــرام التوازن بــين حـــقوق الفــرد والجمـاعة”.
وأن يقــوم الفاعــل الإعلامي بـدوره المهني و يساهم، في نفس الآن، في تعزيز قيـــم الحـرية والبنــاء الديمقــراطي، فـذاك ما يفـرض التحلي بالكثير من النزاهــة ومن مقتضيات أخلاقيات المهنــة وأدبياتها المتعارف عليها، وإلى جانب ما هو مهني (بالمفهوم الضيق)، ينبغي الإقــرار بأن الممارسة الإعلامية التي تهـتــم بشؤون الوطن والمواطنيــن تستدعي حضور روح المسؤوليـة الوطنيــة، والنزاهة والصدق والوضوح في خــطابها، بما يعــني:
* أن قضايا الوطن والمواطنيــن، على المستوى الجهوي كانت أو الوطني، اقتصادية كانت أو اجتماعية أو ثقافية، لا يجوز، بأي حال من الأحوال، أن تستعمل كورقة أو ذريــعة للإضرار بمصالح الأمة وثوابتهــا واختياراتها الوطنية.
* أن ضجيـج الخطاب (الإعلامي) القائم على ترويج (أنصاف الحقائق) إنما يساهم فـي فرملة تقــدم مسار البناء الديمقراطي وتعطيل المشاركة الواعية للمواطنيــن.
* أن الوظيفة الساميـة لوسائل الإعلام والتواصل هــي وضع المعطيات الحقيقية أمام المواطن، وتمكينــه مـن تملـك وعي حقيقي وقناعات مستوعبة للمعطيات الموضوعيــة.
* أن مبدأ استقلالية وتعــددية وسائل الإعــلام بقدر ما يشكل مكاسب ديمقراطية هــامة، بقدر ما لا يبيــح لأي كــان استعماله في تدمير قواعد الممارسة الديمقراطيـة، خاصة وأن الديمقراطية لا يمكـــن أن تبنـــى إلا بالوسائـــل الديمقراطيـة التي تبـــدأ بالآليــات التي أوجــدتها الإنسانيــة لذلك، مـن هيـئات ومــؤسسات ودساتيـــر وتنظيمـــات…
أما الفــاعل السياســي، فردا كان أم تنظيـــما، فهــو بالتأكيـــد ليس فوق الدستور أو خارج القانـون، وبالتالي فهــو مسؤول عــن أنشطتــه في إطار القانــون وأمام المواطنيــن، كما أن المؤسـسات التمثيليــة والتدبيــرية منظمة بمقتضيات القانــون والدستــور، وآليــات المســاءلــة السياسيــة والإدارية والقانونية قــائمة على كــل المستويات، ولا أحـد يمكنــه نكــران أهميــة الخطــوات التي خـطاها المغرب في مجال بنـــاء مؤسساته الحــديثة.
على أن كل ذلك لا يعنــي تجــاهل حقيقـــة أخرى تتمثـل في كــون المغرب ما يزال يجابــه مجموعــة مـن التحــديات والمشاكل ذات الطابــع الاجتماعي والتنمــوي، كما أنــه مطالب اليــوم بمعالجـة قضايا أو ملفات ذات بعد استراتيجـي (التعليم ، الجهوية …)، ومن دون شـك فإن هــذه المشاكل لابد وأن تتـولد عنــها ردود فعــل مشروعة.
وإزاء ما قــد يظهر مـن مفارقــات، أو ضبابية في بعض الأحيــان … يأتي هنا دور الفاعــل السياسي الذي مـن مسؤولياتــه العمل على ترشيــد وتأهيــل المشهــد السياسي وصيانته مـن نـزعات الإحبــاط والقنوط والتيئـــــيس، والتنبيـــه إلى مخاطر وعواقب خـطابات الشعبــوية والديماغــوجيـة وسياســـة المزايدات الفارغـــة التي من شأنها أن تــدفع بالبــلاد نحــو المجهــول.
لذلــك، وبالنظر أيضا إلى ظاهرة العزوف وردود الفعل العفـــوية، فإن طريق تعــزيز وتقــوية النسق أو النموذج السياسي الوطني يمــر عبر قــدرة الفعاليات المعنية، سياسية ومجتمعيــة وإعلاميـة، على الارتقـــاء أكثر فأكثر بدينامية المشهــد السياسي وبحيـــوية الساحـة السياسيـة وبالتركيز على القضايا الحقيقيــة واعتمــاد خطاب العقلانية والصراحـة والوضـوح.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock