رأيمستجدات

هدر الزمن السياسي والمدرسي

بقلم الأستاذ عبد الله الفردوس //

بات من المؤكد أن زمنا سياسيا تم هدره لإصلاح منظومة التربية والتكوين، بالتأجيل المتواصل للتصويت والمصادقة على القانون الإطار لمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، مع إحاطة هذا القانون بسلسلة من التدهورات والانحرافات والاتهامات المتبادلة التي خرجت إلى عامة الناس في صورة مغلوطة ومزيفة، تعيد تقسيم الأمة إلى معسكري “الاستعماريين” و”الاستحماريين”، أو”الوطنيين” و”التغريبيين” أو”الأصلاء الأوفياء” و”العملاء الخونة”، حول بند من بنوده يتعلق بلغات تدريس العلوم، كان بالإمكان تدبير الخلاف والاختلاف فيه بطريقة واقعية وديمقراطية ومؤسساتية وتوافقية تراعي الاستحقاقات والرهانات الوطنية الجديدة المنفتحة على مجتمع المعرفة والتواصل والتكنولوجيا، وتأخذ بعين الاعتبار مصلحة التلاميذ، وانتظارات وطن ومواطنين بخصوص ثاني قضية وطنية بعد قضية الوحدة الترابية للبلاد.

وإذا انضاف إلى هذا الهدر لزمن الإصلاح السياسي، هدر آخر للزمن المدرسي نفسه الذي تم إغراقه خلال السنة الدراسية الحالية بمجموعة من العمليات والتدخلات والتعنتات غير الموفقة التي نتجت عنها إضرابات واحتجاجات في قطاع التعليم لم تستثن فئة من العاملين فيه، من أطر التدريس وأطر الإدارة وأطر المراقبة بل والتلاميذ وآبائهم، والتي أربكت تدبير القطاع على جميع الأصعدة المركزية والجهوية والإقليمية والمحلية، ابتدأت بالاحتجاج التلاميذي على التوقيت الجديد، ثم استنكار مضامين بعض المقررات والكتب المدرسية الجديدة بالتعليم الابتدائي، ثم مقاطعة المديرين والمفتشين واحتجاجاتهم، وإضرابات لفئات كثيرة من المدرسين، وإضرابات عامة للمركزيات النقابية، لتصل ذروتها بالإضرابات المفتوحة التي لا تزال تنسيقية الأساتذة المتعاقدين أو أطر وموظفو الأكاديميات تخوضها وهي تستكمل الآن شهرها الثاني، بهدر لم يشهد مثيله للزمن المدرسي للمتعلمين، وضياع حصص دراسية يصعب استدراكها بالتدابير الظرفية والاستعجالية التي أنهكت الأسر والتلاميذ واستنزفت طاقات المسؤولين في ارتجال التدخلات ورسم السيناريوهات الممكنة لسد الخلل ودرء المخاطر على أبواب إنهاء السنة الدراسية بدون إنهاء البرامج والمقررات. ولعل ملف الأساتذة المتعاقدين مرشح للتصعيد أمام انسداد أبواب الحوار والتعنت وشد الحبل، وغياب الحكامة والحكمة والاحترافية في تدبير المخاطر والأزمات، ونزع فتائل الاحتقانات.

لا تسمح هشاشة هذا الوضع التعليمي وتدهوره، إن على صعيد التدبير الحكومي للتوافقات حول القوانين والتشريعات والمخططات وبرامج التدخل، أو على صعيد المؤسسات التعليمية التي تشكو من تعثرات متزايدة في السير العادي للدراسة، ومن اختلالات في إنجاز الدروس، أن ينحط تدبيرنا إلى مستوى الهواية، وأن نقف اليوم موقف المتفرج مما يحدث لمدرستنا العمومية من نزيف لا يزيده الانتظار والتعنت إلا امتدادا في جرح لا نكف عن فتحه إلى أبعد حد من يوم لآخر ومن تدخل لآخر، ونحن نعتقد أننا نفتح ورشا إصلاحيا تلو ورش.

 وسواء توصلنا إلى ترضيات وتوافقات أو تواطؤات حول القانون الإطار، أو صادقنا عليه في صيغته الحالية، في ما تبقى لنا من زمن الإصلاح، وحللنا مشكل الأساتذة المتعاقدين، وفتحنا حوارا مع باقي الفئات والهيئات التعليمية لتسوية ملفاتها المطلبية، فإننا قد خلفنا أمامنا تراكمات من الآثار السلبية والاستفزازات المتبادلة، والمخاطر التي يصعب التحكم فيها، وخلقنا جيوبا للتذمر ومقاومة التغيير، أقلها إضعاف الثقة والتعبئة الجماعية والانخراط الإيجابي في التنزيل الأمثل للإصلاحات، بتقسيم الفاعلين التربويين وعموم المواطنين وتوسيع هوة الخلاف من جديد حول قضايا محسومة دستوريا، تتعلق بمسائل الهوية واللغة والوطنية والمشروع الديمقراطي والحداثي والتنموي.

لقد كان ملف مشروع إصلاح قطاع التكوين المهني سيراوح مكانه وسيعرف المصير الارتجالي والارتباكي نفسه، لولا الحزم الملكي في مباشرة تدقيق آجاله وهندسته، وإقالته من عثراته، وتوجيه الحكومة وحفزها على تسريع وتيرة العمل والتعبئة لإخراج خطة واقعية لتأهيل هذا التكوين، إلى أن استقام وحظي باستحسان الجميع وتثمين المقاربة والحكمة والحكامة الملكية التي دعمته وسددته. وكان بإمكان الحكومة أن تتخذ من هذه التوجيهات الملكية المحفوفة بإرادة قوية وعزيمة لا تلين، وواقعية في العمل والأمل، نموذجها في معاملة مشاريع وملفات تحترق الآن بين يديها، وتدخل في نفق مظلم لتخرج منه إلى أنفاق أخرى أكثر ظلمة وتعقيدا.

إن استقرار منظومة التربية والتكوين، وإصلاحها الهادئ، وجودة أدائها، هي كلها اليوم على محك المصداقية الحكومية، فإما أن تنهض بها على أحسن وجه بمراجعة طرق تدبير أسئلتها ورهاناتها التي لم تعد تقبل التأجيل وانتظار التفرغ من المناطحات الإيديولوجية والتجاذبات السياسوية والانتخابوية حول الهوية القومية والوطنية، والتي تم تصديرها إلى الشارع وإلى حلقيات المزايدة على القيم الحضارية للأمة، أو أن ترهن مستقبل البلاد وأجيالها الصاعدة، ولعقود أخرى قادمة، بزمنها السياسي المهدور، وإخلاف موعدنا مع التاريخ مرة أخرى، وحينها لا ينفع اعتذار عن هدر سنوات من عمر الرؤية الاستراتيجية لإصلاح المنظومة التربوية 2015 ـ 2030، والمدققة الآجال، في خلافات هامشية مفتعلة، وفي تردد المبادرات وتوجس الخطوات، والحال أننا على مقربة من استنفاذ ثلث مدة إرساء الرؤية المحددة في 15 سنة، ونحن نراوح مكاننا، بل ونخلق وضعيات سلبية ومستجدات مقلقة، تتطلب في حد ذاتها تدخلات تصحيحية وعلاجية طويلة الأمد، ولا تكاد تنتهي.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock