تفاجأ عدد من المهتمين بالعلاقات الدولية بموقف المغرب من عدم المشاركة في التصويت على قرار إدانة روسيا بشأن الحرب في أوكرانيا، المعروض على الدورة الاستثنائية للجمعية العامة للأمم المتحدة، وكانوا يتوقعون أن يساند المغرب حلفاءه التقليديين في أوروبا بدون قيد أو شرط، بحكم ما يعتقدونه من أن هذا التحالف يفرض تبعية المواقف المغربية للمعسكر الأوروبي والغربي بصفة عامة، بحكم تطابق وجهات النظر في العديد من القضايا الدولية والإقليمية وبانسجام مع المنظومة القيمية والسياسية والثقافية والحضارية والاقتصادية للنظام العالمي الجديد التي تعني في عرف هؤلاء وفي خطاباتهم الإعلامية خاصة، ذوبانا ورضوخا واصطفافا. لكن تبين بهذا الموقف المغربي المتناغم مع مواقفه المبدئية من مسائل الحرب والسلام والتعاون الدولي، أن الأمر ليس بهذه المطلقية بالنسبة للحالة المغربية، فالموقف المغربي الأخير ليس وليد لحظة عابرة أو نزوة طائشة أو انفعال طارئ، بل هو حلقة من ضمن مسلسل حلقات عديدة في مسار تكريس الاستثناء المغربي، ليس رغبة في الاستثناء والتميز لأجل التميز، وإنما حصيلة بناء وإرساء لنموذج أكثر عدلا ووضوحا ومصداقية في تدبير العلاقات الدولية، وأكثر تطابقا وانسجاما مع روح وجوهر مقتضيات الاحترام المتبادل والشراكات الاستراتيجية المندمجة في تدبير المصالح المشتركة الأممية ورعايتها.
فقد عبر المغرب في أكثر من مناسبة وموقف عن انخراطه التام في كل العمليات السلمية الدولية التي تحافظ على أمن المجتمع الدولي وسلامة الدول، أو التي تنهض بقضايا الشعوب وبالأولويات الوحدوية والتنموية والحقوقية والديموقراطية، وجذب إليه الأنظار في الملتقيات والمؤتمرات التي استضافها أو كان ضيف عليها، بمواقفه الحكيمة والمتزنة والواضحة والعادلة من قضايا الاستعمار والهجرة والنزاعات المسلحة والإرهاب والصحة والأمن والمناخ والبيئة والشراكة…انحاز فيها إلى لغة الحوار الديبلوماسي والتفهم الإنساني لانشغالات الدول وقلقها على مصالحها، ودعم الثقة في كل المبادرات السلمية المتجردة من الأغراض الضيقة، لنزع فتائل التوتر والتصعيد والعنف والتدخل العسكري. ويبدو أن الفكر الاستعماري الإمبريالي والعنصري الذي يتحكم شعوريا أو لاشعوريا في حسابات شركاء المغرب وفي وسائل دعاياتهم وإعلامهم وفي الذهنية الجماعية الغربية، يحجب عن هؤلاء جميعهم أن يدركوا أن الاصطفاف المغربي مع الحق ضد الظلم ومع المبادئ والقيم الإنسانية الكبرى والفضلى المشتركة ومع المواثيق الأممية الراعية لها، لا يعني بالضرورة الاصطفاف مع التدابير التي تتخذها الدول الكبرى والغنية والمهيمنة
لتفسير هذه المواثيق وتأويلها في خدمة مصالحها الأحادية الجانب والنفع والربح، والتحكم في المبادئ والقيم المشتركة لصالحها، معتقدة في ذلك أن مصالحها تكمن في مزيد استضعاف وابتزاز وإقصاء مصالح الشعوب الأخرى المشكلة للأسرة الدولية والتي تقاوم إلى غاية اليوم مخلفات استعمار غاشم وتقسيم وتمزيق لأراضيها،سواء في الحروب الامبريالية أو في فترة الحرب الباردة، وتواجه تحديات خطيرة للحفاظ على أمنها ورخائها وازدهارها ووحدتها الترابية وثرواتها وثقافتها.
فالموقف المغربي من قضايا السلام والأمن الدوليين كان واضحا ولم يتغير،والذي تغير هو الموقف من الغموض والالتباس والرمادية، ومن لعبة ابتزازية مخزية واصطفافية مقيتة تقر هنا ما ترفضه هناك، وتصمت حين يلزم الحديث والصدع بالكلام الفصل. الموقف المغربي المعبر عنه منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا هو العودة إلى تأكيد الرفض التام والمبدئي للمساس بالسيادة والوحدة الترابية للدول المنضوية في الأمم المتحدة، وتغليب الحوار والمقاربات التفاوضية السلمية في حل النزاعات المستعصية، خصوصا المسلحة منها، وبما أن لا أحد بذل أقصى جهده ومبادراته في هذا الاتجاه الداعم للمفاوضات والتفاهمات وتفعيل الالتزامات والتعاقدات المقررة داخل أروقة الأمم المتحدة وفي مواثيقها الدولية، فإن المغرب في حل من الانسياق مع ضاربي طبول الحرب والتصعيد، وضاربي عرض الحائط بمصداقية المنتظم الأممي ومؤسساته ومجالسه. ماذا سيزيده اجتماع للتصويت الرقمي الاصطفافي في هذا المنتظم الأممي الذي يعاني من محاولات خوصصته وإضعاف مصداقيته وإسقاطه، اللهم إلا مزيدا من الشرخ والانقسام في الأسرة الدولية، وكان الأولى أن يكون مجمعا للسلام ولدعم انخراط أعضائه في عملياته ومساراته وحلوله المبتكرة والمتوازنة والحاسمة.
إن ما يتهدد الأمن والسلم الدوليين في العديد من بؤر التوتر في العالم، ليست أوكرانيا إلا نقطة في بحرها، هو تفضيل العديد من الدول الغربية، وعلى رأسها دول الاتحاد الأوروبي، الاستثمار في بؤر التوتر هذه، وإدامة نزيفها ونزاعاتها ما أمكن إلى غاية امتصاص آخر رمق في تجارة رخيصة وتربح على ظهور معاناة الشعوب وآلامها. فإذا اختار المغرب عدم مشاركة هؤلاء المتربحين من المآسي والحروب، الرافضين لبذل الجهود النبيلة لا الملتوية والتعاون الحقيقي لا المغشوش، فلأنه يعلم أن اتجاهات المستقبل تعاكس بالكلية توجهاتهم الضيقة والعابرة والملتبسة، فنفس المنطق الاستعماري القديم المتغطرس يتخفى وراء دعاوى الشراكات الاستراتيجية والحلف القوي الذي تدعيه هذه الدول الغربية مع شركائها في ما أسموه بالعالم الثالث، الذي لا يفيد ترتيبا في سلم التقدم ولا توصيفا للحالة الاقتصادية والسياسية،
وإنما فرضا للهيمنة والتبعية والوصاية والحماية وتكريسا لها. إن مساعي المغرب في تحيين شراكاته وإعادة النظر في منظومة علاقاته بدول الاتحاد الأوروبي، على أسس جديدة، تبرره كل هذه الإساءات المتتالية لمفاهيم الشراكة والعلاقات الاستراتيجية والوضع المتقدم والموثوقية والمصداقية وغيرها من المفاهيم والمبادئ التي تلاعبت بها الأنظمة الأوروبية المتعاقبة على الحكم، دون أن تبذل جهدا حقيقيا في سبيل الوفاء بالتزاماتها ووعودها، فهي إذ تصف المغرب بالشريك الاستراتيجي الموثوق والآمن والمستقر، تعمل وراء الكواليس بل وعلى الخشبة،على زعزعة استقرار المغرب وفي حشد الأصوات والعداءات ضده ومعاكسة طموحاته التنموية والتقدمية، وما المثال الاسباني عنا ببعيد في لعبة هذا النفاق والاستهتار بالجوار القوي والصداقة العميقة والشراكة الاستراتيجية بأعمال عدائية ضد مصالح المغرب في أروقة الاتحاد الأوروبي وفي دواليب الحكومة والمؤسسات والهيئات السياسية ووسائل الإعلام الإسبانية.
ليس مغرب اليوم وحده من لن يكون كمغرب الأمس ما قبل هذه الحرب البغيضة، بل مجموع الدول الناهضة والمقاومة للذوبان والمؤامرة في إفريقيا وآسيا، التي تطمح إلى تغيير قواعد اللعبة في النظام العالمي المختل القائم على الابتزاز والمساومة، نحو نظام عالمي جديد أكثر عدلا وأمنا وصلاحا، وأكثر وضوحا، وأقدر على استيعاب الاختلاف والتنوع والتعدد والاحترام المتبادل في تدبيره للعلاقات الدولية، وأقوى مصداقية في توجهه السلمي والأمني ضد كل أشكال الهيمنة والإرهاب والعنف والتطرف والكراهية والابتزاز والاستفزاز بما فيها هيمنة وإرهاب واستفزاز الدول الكبرى ذات الحق في الإملاءات والتحكمات،والتي تفكر في الاستحواذ على ثروات التقدم الإنساني والاستفراد بها واحتكارها، والوصول إلى حقول الغاز والنفط والطاقة أكثر مما تفكر في الجياع والأرامل واليتامى والمرضى والمنبوذين ومعطوبي الحرب. لهذا فإن بداية التحول إلى منظومة إنسانية جديدة أكثر عدلا وإنصافا وإنصاتا لهموم البشرية جمعاء، وليس لصراعات الكبار على الغنائم، يقتضي التفكير والمبادرة من خارج صندوق الاصطفافات وخارج لعبة الانحيازات الضيقة والخطيرة المعلن عنها في لائحة المصوتين مع أو ضد إدانة روسيا أو بين بين. هذا هو الموقف التنبيهي للمغرب، الذي قبْل أن يكون موقفا هو رسالةُ ناصح أمين إلى من يهمهم أمن العالم وسلمه وتعاونه، ونقطة نظام في غمرة المسارعة إلى السلاح، والحماس للحرب والخراب، وإخراس أصوات الحكمة والعقل الداعية إلى الحوار ثم الحوار ثم الحوار إلى حين تحرير المجتمع الدولي من فكر الهيمنة وتبعاته العنصرية والاستعمارية والطائفية.