ثمة مثل مغربي ينطبق بدقة على السلوك الأوروبي المناور والمتناقض والابتزازي ذي الوجهين والمكيالين تجاه الدول الإفريقية وعلى رأسها المغرب، يقول المثل عن صاحب هذا السلوك: “يَكْوي ويَبُخ”، أي أنه يلقي بالنار الحارقة وبالماء المطفئ لحرارتها في آن، يؤلم ويُسَكِّن، ويجرح ويداوي في الآن، يحدث الضرر ثم يوهمك بمعالجته، يُصَعِّد ويُهَدِّئ، يُسْخِط ويُرْضِي، يُبكي ويُضحك في آن، يرفع العصا ويدلي بالجزرة، وذلك حتى تبقى ضحية هذا السلوك المزدوج رهينة غموضه والتباساته وتناقضاته. فما أن تُطلق مؤسسات وهيئات أوروبية النيران على دولة إفريقية تستهدفها بالابتزاز والإخضاع، حتى يُعطَى الضوء الأخضر لمؤسسات وهيئات وجهات أخرى أوروبية، لاستصدار تقارير تهدئة وحكمة وحياد، من هنا وهناك، ومن هذا المجال أو ذاك، للإيهام أن ثمة موقفا آخر، وصيغة أخرى لقول الحقيقة وأن الحبل حبلان؛ أحدهما للعرقلة والشنق والتهديد، وثانيهما ممدود للإنقاذ والنجاة والطمأنة.
ولأن هذه اللعبة صارت مكشوفة، وتُلعب مع أكثر من دولة إفريقية تعاني من المكر الأوروبي الذي تقوده جيوب الاستعمار الفرنسية خاصة، وتتمادى في فرضه على المعاملات الديبلوماسية والبرلمانية الأوروبية، وصارت مضرة بالمصالح الأوروبية الإفريقية المشتركة غاية الضرر، أصر المغرب على مطالبة جميع الدول الشريكة أو التي تسعى إلى بناء شراكات جديدة معه بالخروج من المنطقة الرمادية، ومن اللعب على الحبلين في علاقاتها بالمغرب وبملفاته الاستراتيجية والحيوية وفي مقدمتها ملف النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية، من خلال تبني منظور سياسي وديبلوماسي واضح وصريح، يسمح بتحييد كل التوترات وسوء الفهم واستغلال التناقضات لنسف ما تم بناؤه أو يجري إبرامه من شراكات على أساس رعاية المصالح المشتركة وسياسة الوضوح واقتسام المنافع وبناء الأمن المشترك، وليس الاستئثار بالغنائم والهروب من المسؤوليات والالتزامات، ذلك الهروب الذي يكرسه المكر بالشريك عبر الفتح الدائم للمنطقة الرمادية على المجهول وعلى المخاطر والتهديدات وعلى الابتزازات الدائمة وعلى الألغام المزروعة في الطريق.
مناسبة هذا الحديث التنبيهي والتذكيري، هو أنه بعد الخرجة الهجومية غير المبررة إطلاقا
الفساد المالي، يعتبر انتصارا للمغرب على الدعايات والإشاعات والاتهامات بالفساد المالي التي روج لها الإعلام الأوروبي الفاسد والموتور والمعادي للمملكة، حيث كرس القرار صورة الدولة المغربية التي تعمل في إطار الشفافية واحترام القوانين والمعايير الدولية ذات الصلة.
ليس هذا التقرير العلمي والمحايد وحده من ينتصر في قلب أوروبا للمغرب، وإنما ظهرت على هامش حركة البرلمان الأوروبي وهجمة إعلام التطاول والخبث الفرنسي، وتوصيات الأذرع المنظماتية الحقوقية الدولية المنفذة لأجندات قوى الهيمنة والاستعمار، حركة مضادة مكونة من خبراء علميين دوليين، عصفت تقاريرهم الدقيقة بكل الدعاية المغرضة بشأن استعمال المغرب لبرنامج التجسس بيغاسوس، وقدموا أدلة على براءة المغرب من هذه التهمة والادعاء، ووضحوا مسار هذا البرنامج في الاستعمال من قبل دول أوروبية نفسها، لم يطلها اتهام أو تحقيق أو حتى مجرد إشارة.
بقدر ما يسعدنا انكشاف جزء من حقيقة وحلقات استهداف المغرب بالكذب والتزوير والتشويه من طرف من يفترض فيهم أنهم شركاء، على يد منصفين من فرنسا وغير فرنسا، بقدر ما يؤلمنا استمرار لعبة الكي والبخ واستغلال كل هذا الرماد للعب على الحبلين معا، ولإعطاء إشارات متناقضة، وتبادل الأدوار بين الأجنحة العلمية والأجنحة الإيديولوجية الأوروبية المقيتة. لذلك من الصعوبة بمكان أن تمضي العلاقات الأوروبية المغربية على سكتها الصحيحة وأن تحرز تقدما، إذا لم يتم التفاهم على القطع النهائي مع هذه السياسة الرمادية الفرنسية خاصة، التي يعتبرها المغرب سببا موضوعيا للإساءة الدائمة لاستقرار علاقاته المتميزة مع شركائه الأوروبيين، وعقبة كأداء وبؤرة توتر، وليست مجرد حياد أو اختلاف في وجهات النظر كما تحب فرنسا أن تصف به تدبيرها الديبلوماسي لسياستها الخارجية مع المغرب، واستثمارها في الغموض والالتباس.
فهل لا يزال لدى فرنسا، الممثلة للخط الإيديولوجي السياسي الأوروبي، متسع من الوقت للخروج من لائحتها الرمادية، وهي لم تخط بعد خطواتها في اتجاه الوضوح، ولم تكلف نفسها عناء بذل الجهد السياسي النبيل للقطع مع المناورة والتناقض والابتزاز والدس والخديعة والمكر؟