يًطبَخ تجديد وتحيين العلاقات المغربية الفرنسية على نار هادئة، رغم إبداء الجانب الفرنسي نوعا من مقاومة التغيير، والإصرار المتواصل على التذكير بالماضي وبالتاريخ والعواطف والأماني، والعبارات الجميلة من مثل “التعويل على فرنسا” و”الثقة في الإرادة الفرنسية لدعم المغرب في قضاياه الحيوية وذات الأولوية”، وذلك في كل لقاء ديبلوماسي يروم فتح صفحة جديدة في هذه العلاقات بين البلدين، وإعادة بنائها وتجديدها وتحيينها وفق متغيرات ومستجدات ومعطيات تستوجب مراجعة تامة للشكل القديم للمعاملات بين الدولتين على الصعيد السياسي خاصة.
المغرب بدوره مصر على عدم الرجوع إلى الوراء، بعدما خبر جيدا خطورة استمرار فرنسا في مناوراتها بشأن الموقف من وحدته الترابية، وذاق مرارة التلاعب الفرنسي بالعواطف، ومخالفة لسان مقالها للسان حالها. وما إصرار المغرب على مطلب الوضوح والخروج الفرنسي من منطقة الغموض والرماد في تعاطيها مع النزاع المفتعل حول الصحراء، إلا رغبة نبيلة من الجانب المغربي لدرء أي تداعيات سلبية على العلاقات الفرنسية المغربية مستقبلا، إذا ما اختار الجانب الفرنسي أن يقبع في منطقة المناورة واللعب على الحبلين، فطالما جاءت معاكسات المصالح الفرنسية المغربية المشتركة من الجانب الفرنسي، ومن لوبيات استثمرت بقوة في غموض الموقف الفرنسي، ووجهت عبره طعنات للشراكات الاستراتيجية، ولمصداقية اتفاقية المبادلات الثقافية والتجارية بين البلدين، إذ لا يعقل أن يكون لسان حال فرنسا الدفاع عن مصالح البلدين، في الوقت الذي تمرر فيه هذه اللوبيات الفرنسية في واقع الحال الفرنسي سلوكات معادية للمغرب، ومعاكسة لمسارات الثقة والمصداقية التي تسعى الدولة المغربية إلى إرسائها والتمسك بها مع الدولة الفرنسية، ومع غيرها من دول المعمور الشريكة والصديقة.
لا يستقيم لسان المقال أو الخطاب الفرنسي الإيجابي والمنفتح على أسئلة المغرب وقضاياه الحيوية، بل الوجودية كما عبر عنها السيد ستيفان سيجورني وزير خارجية فرنسا من خلال دعم مخطط الحكم الذاتي للأقاليم الجنوبية المغربية، مع التلكؤ والتردد الفرنسي في الإعلان الرسمي، ومن أعلى سلطة ومؤسسة في الدولة عن موقف صريح وواضح من مغربية الصحراء، يقطع نهائيا مع كل المناورات والابتزازات التي طالما عانى منها المغرب في علاقاته مع فرنسا، وتسببت المواقف الغامضة للمسؤولين والديبلوماسيين الفرنسيين بخصوص هذا الموضوع في خسارات فادحة للجانبين، وفي إهدار كبير للجهود، وتضييع للوقت وللفرص الكبرى المتاحة أمام الشراكات الاستراتيجية القوية بين البلدين، للتقدم خطوات إلى الأمام، بدل اجترار العوائق والأعذار والالتباسات إلى ما لا نهاية.
إن التنسيق بين البلدين في كل المجالات وبالخصوص على الصعيدين الاقتصادي والأمني، وكما تُمني فرنسا نفسها به، لا يمكنه أن يستثني جزءا من التراب الوطني المغربي، إذ مغرب اليوم بما توفر له من شراكات وصداقات، وبما أرساه من بنيات للنهضة والاستقرار والأمن، لا يمكنه أن يواصل سياسة غض الطرف عن استهدافه بأعمال قذرة هدفها الأساس تقزيم دوره، ولي ذراعه من الموضع الذي يتصور مستهدفوه أنه يوجعه ويؤلمه ويحرجه، وهو بكل الصراحة اللازمة ذراعه الصحراوي. ما يوجع المغرب حقيقة في علاقاته مع فرنسا، هو أن يدعم هذا البلد الصديق الاستقرار والأمن والأمان والاستثمار في العلاقات مع المغرب، وفي الآن نفسه أن يلوح من طرف خفي بفزاعة الصحراء في برلمانات أوروبا، وفي أسواق المزادات والمزايدات المفتوحة في إعلامها وفي مؤسساتها العميقة، وأن يزرع التشويش والشغب في طريق المغرب الجديد.
ما يوجع المغرب
ويؤلمه هو أن يشتغل في ظل انعدام الأمان والثقة والمصداقية، والاستعداد الدائم من الطرف الشريك للانقلاب على الشراكات والاتفاقيات، وما يهم المغرب في إصراره على الوضوح اللازم في المقال والحال، هو تحصين هذه الثقة وحمايتها من عبث العابثين وانتهازية المنتهزين، وعلى فرنسا الرسمية أن تفهم هذا المطلب الحيوي للمغرب الجديد لبناء الثقة وفتح صفحة جديدة بمضمون جديد تسطره سطرا سطرا اتفاقيات ومعاهدات وبيانات حقيقية مشتركة، تقطع دابر التوتر وفتنة الكواليس والأقبية المظلمة التي لا تزال فرنسا غافلة أو متغافلة عن ضررها الشديد على علاقات استراتيجية كبرى بين البلدين لم تحسم بعد سياسيا في الموقف مما تعتبره نفسها قضية وجود بالنسبة للشعب المغربي، كما جاء على لسان وزير خارجيتها.
ما استشعرناه من زيارة وتصريحات وزير خارجية فرنسا إلى بلادنا لفتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين، هو شيء من بقايا الغموض لا تريد فرنسا أن تبددها كلية، أو أنها تتحرج من الوضوح اللازم، بناء على حساباتها الخاصة وقواعد لعبتها غير النبيلة وغير الشريفة في الندية والتنافس والمعاملة بالمثل. لا يمكن للمغرب الذي عرضته علاقاته القديمة مع فرنسا، بما فيها من التباسات، لخسارات وتعثرات وعراقيل، أن يواصل العمل في هذه السبل المنحرفة والمضللة. ومن شأن الاستكانة لخطاب الأماني والمجاملات الذي يحمله وزراء فرنسا إلى المغرب كلما جمعتهم المجامع بنظرائهم المغاربة، أن يؤجل الإصلاح الذي ينبغي أخذه بقوة وعزيمة وثقة في المستقبل، وبقناعة بالحق المغربي وبشرعية دعم المغرب في قضاياه الحيوية العادلة التي عليها مبنى أي شراكة حقيقية تروم تحقيق المصلحة المشتركة للبلدين والشعبين، وتطوير مقاربات ومبادرات جدية ومسؤولة للنهوض بأسئلة التنمية والحريات والديموقراطية والاستقرار والأمن والعيش الكريم والجوار الحسن، في منطقة متوسطية وقارية تؤجج فيها العصابات واللوبيات الانتهازية نيران الكراهية والقطائع والحروب.
ليس بالأماني والأغاني والشعارات والمجاملات وحلاوة اللسان يمكن لفرنسا أن تكسب ود المغرب الجديد، بكل ما حملته إليه رياح التغيير من مستجدات ومكتسبات، وبفضل تضحيات أجيال من أبنائه وكفاءاته وقيادته، بل بمسايرة هذه المتغيرات، ومواكبة نتائج العمل المغربي، وحصيلة منجزاته، وآفاق شراكاته ومبادراته القوية التي طرحها بكل الوضوح اللازم لجذب الشراكات والاستثمارات المفيدة والمربحة للجميع.
فالمسارعة الفرنسية إلى إعلان موقف رسمي واضح وصريح من قضية الصحراء المغربية، عامل كبير وقوي للحسم في مستقبل العلاقات المغربية الفرنسية، لن تغني عنه خرجات نزهة، ولا زيارات مجاملة، ولا خطاب اللف والدوران، لالتقاط صور باسمة وضاحكة مستبشرة، والإيهام بحل الخلافات، ومحاولة جس النبض المغربي لمرات عديدة، وإنما بالبيان التفصيلي والعملي لما حمله الخطاب الفرنسي من جديد بشأن الموقف من الصحراء والحكم الذاتي، ومن وعود بالعمل على دعم الوحدة الترابية للمغرب، والكف عن الإساءة لها، أو التواطؤ مع عصابات ولوبيات ضاغطة لإبقاء الوضع على ما هو عليه في المنطقة، وتوسيع بؤر التوتر وتشجيع نزعات الاستعمار والهيمنة والكراهية.
الكرة الآن، بعد جس وزير خارجية فرنسا لنبض المغرب، هي في الملعب الفرنسي، وبالضبط في ملعب الرئاسة الفرنسية لحسم موضوع: الموقف الفرنسي الرسمي الواضح، قبل الشروع في أية عملية لطي صفحة وفتح أخرى جديدة ومجيدة وواعدة في التاريخ الفرنسي المغربي المعاصر، عنوانها، حسب منطوق خطاب وزير خارجية فرنسا الجديد في الندوة الصحفية الأخيرة مع نظيره المغربي: “تحقيق التقدم في موقفنا من الصحراء”.