طفت على الساحة الفنية مؤخرا ظاهرة ” غناء الجمهور مع الفرقة الموسيقية”. هذه الموضة الموسيقية استهوت الجمهور باعتبارها متنفسا فنيا يطلق فيه العنان لتأدية باقة من أشهر الأغاني التي لطالما دأب على سماعها من فنان ما، فيتحول فنانا ونجما وجمهورا في نفس الآن.
يسمي الخبير الموسيقي ” حسن زغيدة ” هذه الظاهرة بـ “الجمهور الذي يغني”. فهذه الظّاهرة، أصبحت تتكرر بشكل لافت في مختلف أنحاء العالم، وأصبحت ظاهرة عابرة للحدود والثقافات. وهذا ما يثير تساؤلات حول أسبابها ودلالاتها.
ويفيد الأستاذ زغيدة أن هناك وجهتي نظر في هذا الموضوع. فمن زاوية أولى، يمكن اعتبار مشاركة الجمهور في الغناء تعبيراً عن التفاعل الإيجابي والاندماج مع الفنان والأغنية. فعندما يتعرف الجمهور على كلمات الأغنية ويرددها، فهذا يدل على تقديرهم للعمل الفني وتمثلهم له. كما أن الغناء الجماعي يخلق نوعاً من الروح الجماعية والإحساس بالانتماء بين أفراد الحضور، ويعزز الترابط بين الفنان وجمهوره.
أمّا من زاوية ثانيّة، قد يرى البعض أن ظاهرة الجمهور الذي يغني تعكس تحولاً في ذائقة الجمهور وتوقعاته. فبدلاً من الاستماع السلبي، أصبح الكثيرون يفضلون المشاركة الفاعلة والتفاعل المباشر مع الحدث الفني. وهذا قد يكون انعكاساً لتأثير وسائل التواصل الاجتماعي التي أتاحت للجميع إمكانية التعبير عن آرائهم ومشاركة إبداعاتهم، كما غيرت من طريقة تلقي الجمهور للمحتوى الثقافي.
وينظر بعض المراقبين إلى هذه الظاهرة بشيء من الريبة. فهم يتوجّسون من أن تطغى مشاركة الجمهور على أداء الفنان نفسه. فقد يتحول التركيز على الاستماع إلى العمل الفني والتمتع به، إلى مجرد المشاركة في الغناء بغض النظر عن الجودة الفنية. وهذا قد يؤدي إلى إضعاف دور الفنان وهيمنة رغبات الجمهور. زهذا ما يشرّع للتساؤلات الآتية: من يقود العرض في النهاية: أهو الفنان أم الجمهور؟ ومن يتحكم في مسار العرض الفني، أهوالفنان أم الجمهور؟ وهل يصبح الفنان مجرد أداة لتلبية رغبات الجمهور، أم يحافظ على سيطرته الإبداعية ورؤيته الخاصة؟ هكذا، تصبح إقامة التوازن بين الاستجابة لتفاعل الجمهور والحفاظ على الهوية الفنية للعمل تحدياً كبيراً للفنانين في عصر “الجمهور الذي يغني”.
ويستطرد الخبير الموسيقي بأنه لا يمكن للفنان أن يتجاهل تماماً مشاركة جمهوره وتفاعلهم، فهذا قد يؤدي به إلى فقدان الصلة معهم، والوقوع في إحباط التواصل. ولكن من ناحية أخرى، لا ينبغي أن يتنازل الفنان عن سيطرته الكاملة ويترك زمام الأمور للجمهور وحده، لأن ذلك قد يفقد العمل هويته وتماسكه.
لذلك، يتوجب على الفنان أن يجد نقطة التوازن الدقيقة، بحيث يستجيب لتفاعل الجمهور ويشركهم في العرض، ولكن دون أن يفقد السيطرة على رؤيته الفنية وتوجهه الإبداعي. فالعلاقة بين الفنان والجمهور ينبغي أن تكون علاقة تكاملية، يثري فيها كل طرف الآخر دون أن يطغى عليه أو يلغي دوره.
على كل حال، إن ظاهرة الجمهور الذي يغني أصبحت واقعاً لا يمكن تجاهله في الساحة الفنية المعاصرة. وهي تعكس تحولات اجتماعية وثقافية أعمق، كالرغبة في المشاركة والتفاعل، وتغير أنماط الاستهلاك الثقافي. فمن المهم للفنانين والمنظمين أن يأخذوا هذه الظاهرة بعين الاعتبار، وأن يجدوا طرقاً للتكيف معها والاستفادة من إيجابياتها، مع الحرص في الوقت نفسه على الحفاظ على القيمة الفنية والإبداعية للأعمال الموسيقية والغنائية. فالتوازن بين مشاركة الجمهور واحترام الفن سيكون أحد التحديات الرئيسية في المشهد الثقافي للمستقبل، وسيحدد ملامح العلاقة بين الفنان وجمهوره في عصر الفن التشاركي.