آخر أخبارحديث الأربعاء

السُّنة الحميدة والمسار الصحيح


بعد أن أطلق جلالة الملك ورش مراجعة مدونة الأسرة القائمة لمزيد من تجويدها وتنقيحها وإصلاحها، وأعطى تعليماته السامية إلى رئيس الحكومة وكلفه بتشكيل لجنة من مختلف الفعاليات المؤسساتية ذات الاختصاص القانوني والتشريعي والحقوقي وبتشاور مع جميع الحساسيات والتمثيليات السياسية والنسائية والأسرية، وكذا الخبرات والكفاءات الاجتماعية والفكرية التي بإمكانها أن تفيد بقوتها الاقتراحية ومبادراتها الإصلاحية، وبعد ستة أشهر على انطلاق عمل الهيئة وباحترام تام للآجال المضروبة وللمنهجية التشاورية الواسعة التي لم يستثن منها متقدم باقتراح أو رأي أو مشورة، تم رفع المقترحات التعديلية إلى النظر السديد لجلالة الملك، جاء دور المؤسسة العلمية الدستورية الممثلة في المجلس العلمي الأعلى ليحيل عليه جلالته، وفي وقت وجيز على استلامه للمقترحات التعديلية، وباحترام تام أيضا للمنهجية وللآلية التشاورية المقررة في الرسالة الملكية إلى رئيس الحكومة، حيث أحال جلالته قبل أيام بعض المقترحات التعديلية المرتبطة أساسا بالنصوص الشرعية وبالاجتهاد الفقهي المتصل بها، وذلك بحكم الاختصاص المؤسساتي الحصري للمجلس العلمي الأعلى في الإفتاء والاجتهاد الفقهي المحترم والمعتبر بناء على مقاصد الشريعة الإسلامية وغاياتها الكبرى المتمثلة في إقامة العدل ورفع الظلم والضرر وإيصال الحقوق إلى الناس.
وبهذه الخطوة من جلالة الملك وهذه السنة الحميدة في تدبير شؤون الأمة ورفع الحرج عنها، يصل إصلاح مدونة الأسرة إلى المحطة ما قبل الأخيرة من إنهاء ورشه وإخراج نسخته الجديدة المنقحة والمعدلة، بكل الطمأنينة اللازمة والثقة الغامرة في النوايا الحسنة والطيبة والإرادة السليمة والعزيمة الثابتة التي حفت بالمبادرة الملكية وبالمنهجية التي سلكتها، درءا لفتنة الناس في دينهم أو دنياهم، وقطعا لدابر أي تطاول على مشروعية مطالب الإصلاح والتغيير التي انخرط المغرب بكامل الوضوح والالتزام والمسؤولية في رهانات الاستجابة لها، بما يملكه من رصيد تاريخي وحضاري كبير في تدبير الإصلاح والتمكين لقيم التعايش والاعتدال والسلام.
لنا الثقة الكاملة، كما لجلالة الملك، في قدرات وكفاءات النخبة العلمية المغربية التي يضمها المجلس العلمي الأعلى لرفع سقف الاجتهاد إلى مستوى رائع ومشرف في التفاعل مع متغيرات الواقع ومع النقاشات الحقوقية بشأن الأضرار الواقعة على عدد من أفراد الأسرة في قضايا ترتبط بالزواج والطلاق والذمة المالية وحضانة الأبناء وغيرها مما كان من الأسباب الداعية إلى إصلاح مدونة الأسرة وملاءمتها مع المشروع المجتمعي المنشود في بلادنا، والقائم على الإنصاف والعدل والارتقاء بالحقوق، ومنع الظلم والإقصاء والتمييز على أي أساس كان من جنس أو عرق أو طبقة…
لا يحتاج منا السادة العلماء والفقهاء وقامات الاجتهاد والفتوى المؤسساتية من أعضاء المجلس العلمي الأعلى المتجردين من أي ولاء لغير دينهم ووطنهم وملكهم إلى أي تذكير بهذا القصد الجليل في رعاية مصالح العباد والتيسير على الناس ورفع الإصر والأغلال عنهم، فهم أعلم الناس به وأولى الناس بالنظر فيه، وإنما نذكر فقط ومن مسؤوليتنا الإعلامية بأن الظلم أو الضرر الواقع على بعض أفراد الأسرة لا يرتبط أصلا بكون النصوص الشرعية تبرره أو تقره، بل يتصل أساسا بفهم النصوص وتأويلها وتنزيلها والقدرة على استنباط القواعد والمبادئ والمثل والغايات منها، فكثيرا ما لا يتم احترام الغايات الكبرى والمقاصد المثلى للشريعة في فهم النصوص وتنزيلها على الواقع، وهذا دور العلماء المجتهدين المتجردين لخدمة الناس العارفين بواقعهم، خصوصا إن كانوا ممن تضمهم مؤسسات مقننة ومسؤولة ومحترمة من مثل المجلس العلمي الأعلى، البعيد عن المزايدات على الثوابت وعلى مصالح الوطن والمواطنين، والبعيد أيضا عن تنطع المتنطعين الذين يلقون الكلام على عواهنه أو يبحثون لهم عن شهرة واشتهار وظهور بمظاهر الزعامة والرئاسة الدينية.
لقد وقى الله بلادنا من هذه الفتن الظاهرة والباطنة التي يختلط فيها الحابل بالنابل والحق بالباطل، بفضل رسوخ مؤسساتنا ومصداقيتها وشرعيتها وثقة الأمة فيها وإجماعها عليها، وقبل كل ذلك ما يحف بها من وقار ديني وهيبة ملكية لا تلين لها عزيمة في إعمال آلية الشورى في كل أمور الدين والدنيا.
هناك تفهم كبير لدى المغاربة لمطالب الإصلاح والعدل ورفع الضرر والظلم، فالضرر يزال، والدين يسر نزل لإسعاد الناس وخدمتهم، ومن ثمة لا يمكن للمجتمع المغربي المتشبث بهويته الدينية والحضارية والمتطلع إلى ضمان الحياة الكريمة لأجياله الجديدة، إلا أن يبارك الخطوات الوازنة والثقيلة والمستقبلية التي يرسخ بها جلالته ركائز النموذج التنموي المغربي، بكل أبعاده الدينية والثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية. وأن يثمن عاليا آلية الشورى في مسار الإصلاح، وأن يقدر لجلالته جهوده المضنية وضماناته القوية لتيسير سبل الكرامة لكل المواطنين والمواطنات، واقتحام العقبات وتذليل الصعوبات، والوقوف على مسافة واحدة من كل الحساسيات والآراء المختلفة التي تحتمي بالحريات والحقوق المكفولة لها في التعبير والتدافع والنقاش.
فهنيئا لبلادنا هذه السنة الحميدة والنهج القويم في الإصلاح، الواقي من الصدام والعنف والفوضى والإقصاء والتسلط، وحتما سنقول كذلك هنيئا لنا النسخة المغربية الجديدة من مدونة الأسرة بعد تخطيها آخر مراحل التعديل والتدقيق والملاءمة والمصادقة، لنقدم مثالا جديدا في عالمنا العربي والإسلامي عن التدبير المغربي الحكيم والموفق للاجتهاد البناء في شؤون الدين والدنيا، بما يحقق من جهة مقاصد الدين وغاياته الكبرى والفضلى في صلاح العباد وتوخي صالح الأعمال، ومن جهة أخرى لزوم السداد في إيصال الحقوق إلى أهلها من غير ضرر أو ضرار، وبلا إفراط أو تفريط. ومن كان هذا قصده وديدنه ونيته في الإصلاح فحري أن يوفقه الحق، ويحالفه النجاح، وتتيسر له سبل الخير والهدى، كما جاء في قوله تعالى: “إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب”.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock