كشفت صحيفة “الساحل أنتلجنس” جانبا من أحاديث تبون الجزائر مع وزير خارجية فرنسا الذي يقوم بزيارة إلى “العالم الآخر” في إطار التنسيق مع العصابة الحاكمة لتنفيذ بنود عقد الاستسلام والإذعان والاستجابة للمطالب والانتظارات الفرنسية، إن لم نقل الإملاءات والتعليمات، بهدف ضمان عدم الإزعاج وعدم تكرار العصابة عربداتها واستفزازاتها للدولة الفرنسية الراعية والضامنة لاستقلال الجزائر المرهون بشرط التعاون مع فرنسا، والوارد في سؤال استفتاء تقرير مصير الإقليم الجزائري أو المقاطعة الفرنسية في مارس 1962، الموجه إلى الهيئة الناخبة، والمسطر بالحرف: “هل تريد أن تصبح الجزائر دولة مستقلة مُتعاونة مع فرنسا حسب الشروط المقررة في تصريحات 19 مارس 1962؟” وهو التعاون الذي عرفته وفصلته وحددته اتفاقية إيفيان السارية المفعول إلى غاية اليوم، والتي بموجبها تضع فرنسا يدها على عدد كبير من الجوانب السيادية الطبيعية والسياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية في هذا الإقليم الفرنسي السابق.
ومن بين المعلومات التي سربتها الصحيفة المذكورة المتخصصة في الشؤون الاستراتيجية بمنطقة الساحل الإفريقي، أن عبد المجيد تبون أثار مع الوزير الفرنسي جان نويل بارو قضية حساسة جدا واستراتيجية في إدارة الصراع الداخلي في الجزائر، والمتعلقة بالمؤسسة العسكرية، وخاصة دور الجنرال سعيد شنقريحة في حكم البلاد، وبالواضح التمس التبون من الوزير الفرنسي، بحسب التسريبات التي تضمنتها التقارير في الموضوع :” تسهيل بعض الإجراءات الإدارية المتعلقة بالتأشيرات، خاصة بالنسبة لعائلات وأبناء كبار الضباط الجزائريين، بالإضافة إلى أصولهم المالية والعقارية في فرنسا. وتضمن الطلب رغبة في تحسين الوضع فيما يتعلق بالنخبة العسكرية الجزائرية، وهو مجال شديد الحساسية والاستراتيجية في إدارة الجزائر من قبل الجيش”.
الأمر الذي يتبين معه أن كل الملفات والمطالب والمصالح الجزائرية المدعى التنازع مع فرنسا عليها، وبعد الاستبعاد الفرنسي التام لمناقشة موضوع الاعتراف الفرنسي بالسيادة المغربية على الصحراء الغربية، مختزلة ومحصورة في ملف واحد ووحيد هو كل ما تبقى للعصابة لتستمسك به وتقدم تنازلات تصل إلى حد التضحية في سبيله بكل مصالح الجزائر دولة وشعبا وأرضا، وهو الحصول من فرنسا على ضمانات بعدم المساس بالمصالح الشخصية لقادة العصابة وعائلاتهم وأصولهم المالية والعقارية في فرنسا، عن طريق استئناف العمل بالتأشيرات الديبلوماسية التي ساومت بها فرنسا العصابة والعالقين في أحذيتها كما وصفهم ماكرون نفسه.
إن هذا الالتماس والتسول للتأشيرات الديبلوماسية لفائدة الطغمة العسكرية وعائلاتها التي تحكم الجزائر بالحديد والنار، ومن قبل من يعتبر نفسه رئيسا مدنيا لبلاده، وراعيا لمصالحها وسيادتها، يعري عن سوءات هذا النظام أمام الشعب الجزائري المخدر بالخطابات الدعائية للأبواق الإعلامية للعصابة عن نصر مؤزر على فرنسا وتركيع لماكرون.
لا شيء إذا من ملفات المطالب والاحتجاجات الجزائرية التي كانت سببا في التصعيد مع فرنسا، تمت الاستجابة لها أو التفاوض حولها، أو تحقيق أدنى تنازل فرنسي لصالحها، باستثناء ملف مطلبي واحد برفع التهديدات والعقوبات عن التسهيلات الإدارية السابقة الممنوحة لقيادات العصابة العسكرية وعائلاتها وأزلامها بغرض الاستفادة من امتيازات التأشيرات الديبلوماسية الفرنسية لرعاية مصالحها وعقاراتها وممتلكاتها وتجاراتها وحساباتها البنكية فوق التراب الفرنسي، وهو الملف الذي أبدت فرنسا استعدادها ليس للاستجابة الفورية له، أو إعادته إلى التساهل المطلق السابق، وإنما لإعادة التفاوض حوله وبشروط وقيود جديدة، قد يتم خلالها تضحية العصابة بجزء منها لاستفادة الأقوى منها والأكثر قوة ضاربة في دواليب الحكم والبطش وتقديم الخدمات لفرنسا، وقد شهدنا كيف بدأت أجنحة وجماعات وعائلات داخل العصابة تفترق وتقترب ويأكل بعضها بعضا لإعادة تشكيل النخبة الذهبية المنتقاة لاقتسام كعكة التأشيرات الديبلوماسية والتقرب أكثر من فرنسا عبر مزيد من الانبطاح لها والبراءة من التصعيد ضدها.
فهل كان لابد من إذاية العصابة للجزائر دولة وشعبا وتاريخا، والتسبب بعربدتها وسوء تقديرها وفساد إدارتها للبلاد، بكل هذا الذل والعار والهوان لمؤسساتها التي تستقبل اليوم بكل خنوع وخشوع اللاءات التأديبية الفرنسية الثلاث التي تمرر للعصابة تارة بطريقة ديبلوماسية مرنة تحفظ لها الحد الأدنى من ماء الوجه لتخرج به إلى الإعلام، وتارة بطريقة متصلبة ورادعة: لا رجوع عن الاعتراف بمغربية الصحراء، لا لاحتجاز الكاتب والأديب بوعلام صنصال، لا للامتناع عن استقبال الجزائريين المرحلين من فوق التراب الفرنسي…
إن من أبرز المواقف المخزية التي تم تسجيلها قبيل زيارة جان نويل بارو إلى الجزائر هو ما فرضته فرنسا من اختبار لحسن نوايا العصابة في تنزيل وتنفيذ الإملاءات والتعليمات الفرنسية، والامتناع عن أي احتجاج أو عودة إلى الإزعاج والتوتر والسعار، وذلك باختبار ردود فعل العصابة عن طريق استقبال مجلس الشيوخ الفرنسي لفرحات مهني رئيس حركة تقرير المصير في القبايل، بوصفه رئيس جمهورية، وبتجديد وزير الخارجية الفرنسي وهو على أهبة مغادرة فرنسا إلى الجزائر تأكيده على الموقف الفرنسي القاضي باندراج الصحراء حاضرا ومستقبلا في إطار السيادة المغربية. ولم يسمع من العصابة المخزية حس ولا ركز، ولا أبسط تعليق أو إشعار بالضيق والامتعاض، وإنما مررت الحدثين وكأن شيئا لم يكن، وهي التي اعتادت في مثل هذه النوازل إشعال العلاقات مع الدول سعارا وصراخا وقطعا للعلائق واستدعاء للسفراء وإطلاقا لحملات التنديد والتهديد.
إذ لما تعلق الأمر بالمساومة في التأشيرات الديبلوماسية التي عليها يتقرر مصير قادة العصابة ومصالحهم الشخصية والأسرية والمالية، وضع النظام الجزائري العميل كل المبادئ المزيفة والشعارات الرنانة والمصالح الجزائرية الحقيقية جانبا، لكي تتفرغ الرؤوس الضاربة في قيادة الجزائر إلى الهاوية لسباق التسجيل في لوائح وقوائم المنعم عليهم من قبل فرنسا بتأشيرات الخلاص وجوازات المرور إلى بر الأمان.