
في سياق الدينامية المتجددة، التي تشهدها الدبلوماسية المغربية، تحت قيادة جلالة الملك محمد السادس، جاء خطاب العرش الأخير ليجدد التأكيد على مركزية إفريقيا في السياسة الخارجية للمملكة، وليبرز بوضوح الرؤية الملكية الحكيمة في تعزيز التعاون “جنوب- جنوب”، خاصة مع دول منطقة الساحل، من خلال مبادرات ملموسة ذات بعد إنساني واستراتيجي.
وقد شكل الخطاب مناسبة لتسليط الضوء على “العبقرية الدبلوماسية” لجلالة الملك، كما وصفها عدد من المتتبعين، في مزجها بين الواقعية السياسية وعمق الانتماء الإفريقي، ما جعل من المغرب شريكا موثوقا ومتزنا داخل القارة، يعمل على تكريس استدامة المصالح وبناء شراكات “رابح- رابح” مع مختلف الفاعلين.
وفي هذا الإطار، حاورت جريدة “رسالة الأمة” الدكتور بدر الزاهر الأزرق، باحث في قانون الأعمال وباحث في التاريخ الدبلوماسي، للوقوف عند دلالات خطاب العرش، وقراءة أبعاده في سياق التراكم الدبلوماسي المغربي داخل القارة، ودور المقاربة الملكية في ترسيخ حضور المغرب كقوة وازنة وفاعلة في إفريقيا.
من خلال هذا الحوار، يبرز الدكتور بدر الزاهر الأزرق كيف أن الخطاب الملكي الأخير لا يكتفي برصد واقع العلاقات المغربية الإفريقية، بل يرسم بوضوح معالم سياسة خارجية ناضجة وذات نفس استراتيجي طويل. سياسة تراكم الإنجازات، وتبني على رصيد تاريخي عميق، وتفتح آفاقا جديدة لتعاون “جنوب- جنوب” فعال، عادل، ومتوازن.
ما هي أبرز المبادرات التي أطلقها جلالة الملك لفائدة دول الساحل، كما وردت في خطاب العرش؟ وكيف تم استقبالها على الصعيد الإفريقي؟
عند الحديث عن المبادرات، التي أطلقها صاحب الجلالة لفائدة دول الساحل، لا يمكن اختزالها في مبادرات ظرفية أو آنية، بل يجب النظر إليها كامتداد طبيعي لنهج دبلوماسي متراكم، رافق جلالة الملك منذ اعتلائه العرش سنة 1999. فالمقاربة المغربية تجاه القارة الإفريقية ليست وليدة اللحظة، بل تعد ثمرة لرؤية استراتيجية بعيدة المدى، تنبني على مبادئ التعاون، والتكامل، والاحترام المتبادل.
ورغم أن المملكة المغربية كانت، خلال فترة طويلة، خارج المؤسسات الرسمية الإفريقية نتيجة مواقف مبدئية تجاه انحراف بعض هذه المؤسسات عن غاياتها الأصلية، خاصة بعد اعترافها بحركات انفصالية مناهضة للوحدة الترابية، فإن الحضور المغربي داخل القارة لم ينقطع. بل ظل يتعزز بشكل متواصل على المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية، خاصة في منطقة غرب إفريقيا، التي لطالما كانت مجالاطبيعياللامتداد المغربي بفعل الروابط التاريخية والروحية والحضارية المشتركة.
وفي هذا السياق، لم تقتصر المبادرات الملكية على العمل الدبلوماسي الرسمي، بل شملت أيضاتعبئة القطاع الخاص المغربي وتحفيزه للانفتاح على الأسواق الإفريقية، بما يعزز التنمية المشتركة. وهذا ما يتجلى بوضوح في الرؤية الملكية لمبادرات التعاون الأطلسي، والتي تمثل مرحلة متقدمة من هذا التوجه، حيث تنخرط المملكة في مشاريع طموحة لربط دول الساحل والمحيط الأطلسي بمنظومة اقتصادية متكاملة وشبكة لوجستية تؤمن شروط السيادة الغذائية والطاقية والتنمية المستدامة.
كيف يعكس تاريخ الدبلوماسية المغربية في إفريقيا، كما ورد في الخطاب الملكي، تراكما إنسانيا واستراتيجيا يخدم مصالح المملكة؟
يعكس المسار الدبلوماسي المغربي في إفريقيا، كما ورد في خطاب جلالة الملك، رؤية استراتيجية متكاملة تجسد تراكما إنسانيا وسياسيا واقتصاديا عميقا. فالمغرب اليوم يحتل موقع الريادة كأول مستثمر إفريقي داخل القارة، باستثمارات تفوق 12 مليار دولار، موزعة على قطاعات حيوية مثل التأمين، البناء، العقار، الاتصالات، الخدمات اللوجستية، والموانئ. هذا الحضور القوي لم يكن وليد صدفة، بل هو ثمرة عمل دؤوب ومتواصل، ساهم في تعزيز مكانة المغرب كفاعل إقليمي موثوق ومؤثر.
هذا الانخراط الاقتصادي الاستراتيجي مكن المملكة من ترسيخ علاقات سياسية ودبلوماسية متينة مع عدد كبير من الدول الإفريقية، خاصة في منطقة غرب إفريقيا، التي لطالما شكلت مجالا تاريخيا للنفوذ المغربي بفعل الامتدادات الدينية والثقافية والروحية العريقة. ولعل أبرز تجليات هذا التراكم، الدعم الثابت الذي عبرت عنه العديد من هذه الدول للموقف المغربي من قضية الصحراء، ما يبرز الأثر السياسي الفعلي للدبلوماسية الاقتصادية والانخراط التنموي.
إلى جانب الاستثمار، شكل العنصر البشري محورا رئيسيا في الرؤية الملكية للتعاون “جنوب- جنوب”. فقد أولى جلالة الملك أهمية كبرى لتأهيل الكفاءات الإفريقية، من خلال فتح الجامعات والمعاهد المغربية أمام آلاف الطلبة الأفارقة، وتوفير منح دراسية، في تخصصات متنوعة مثل الطب والهندسة، إضافة إلى تكوين نخب عسكرية وإدارية في مؤسسات مغربية. هذا الخيار يعبر عن إيمان عميق بضرورة بناء إفريقيا بالكفاءات الإفريقية، وبأدوات التنمية المستدامة.
وفي السياق ذاته، ساهمت المملكة بشكل ملموس في دعم البنيات التحتية بعدد من الدول الإفريقية، من خلال تمويل أو إنجاز مشاريع ذات أثر اجتماعي واقتصادي واضح، مثل إعادة تهيئة خليج كوكودي في ساحل العاج، وبناء قرى الصيادين في السنغال، والمساهمة في مشاريع البنية التحتية في مدغشقر. هذه المبادرات، وإن بدت متناثرة جغرافيا، فإنها تستند إلى منطق استراتيجي موحد يقوم على نقل الخبرة المغربية، وتكريس شراكة متوازنة قائمة على المنفعة المتبادلة.
قبل العودة الرسمية إلى الاتحاد الإفريقي سنة 2017، قام جلالة الملك بجولات إفريقية مكثفة، أثمرت عن توقيع أكثر من ألف اتفاقية تعاون مع مختلف الدول. هذه الدينامية السياسية مهدت الطريق لانبثاق جيل جديد من التعاون الإفريقي–الإفريقي، يقوم على الانخراط الإرادي، وفتح الأسواق، وتطوير الإطار القانوني، وربط الشبكات والطرقات والبنيات اللوجستية.
وتجدر الإشارة إلى أن المغرب لم يكتف بالاستثمار في المجالات التقليدية، بل وسع نطاق تدخله ليشمل مجالات استراتيجية مثل الأمن الغذائي، من خلال مشاريع كبرى لإنتاج الأسمدة في نيجيريا، السنغال، وإثيوبيا، بما يعزز السيادة الغذائية لإفريقيا. وفي المجال الطاقي، يشكل مشروع أنبوب الغاز النيجيري- المغربي أحد أهم المشاريع القارية، حيث سيربط 13 دولة، ويمكن من تعزيز التغطية الكهربائية، وتحفيز الاستثمار، ومكافحة الهجرة غير النظامية والإرهاب. أما على الصعيد الأمني، فقد ظل المغرب وفيا لالتزاماته، سواء عبر المشاركة الفاعلة في قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في الكونغو وإفريقيا الوسطى، أو من خلال وساطات دبلوماسية هادئة لحل نزاعات معقدة، كما هو الحال في شمال مالي، جنوب السودان، أو منطقة أزواد.
وقد بلغت هذه الرؤية التكاملية ذروتها من خلال “المبادرة الأطلسية” التي أعلنها جلالة الملك، والتي تسعى إلى تمكين دول الساحل غير الساحلية من منفذ مباشر إلى المحيط الأطلسي. إن هذا المشروع، الذي يتقاطع مع منطق السيادة الاقتصادية، يهدف إلى فك العزلة الجغرافية، وتحفيز التجارة، وربط الداخل الإفريقي بالموانئ، مما يشكل تحولا استراتيجيا حقيقيا في مفهوم التنمية الإفريقية.
إن ما يميز هذه المبادرات المغربية هو طابعها التراكمي والمندمج، حيث تتقاطع فيها الأبعاد الاقتصادية والإنسانية والدبلوماسية في مشروع حضاري شامل، يحمل رؤية واضحة لمستقبل إفريقيا. واليوم، ومع دخول مشروع أنبوب الغاز مراحل متقدمة، وتمويله بأكثر من 8 مليارات دولار، فإننا نعيش لحظة مفصلية تنبئ بتحول عميق في العلاقات الإفريقية -الإفريقية، تتزعم فيه المملكة المغربية مسارا جديدا من الشراكة الذكية والتنمية المتضامنة.
في ماذا تتجلى “عبقرية جلالة الملك” في ممارسته للدبلوماسية الواقعية، حسب ما ورد في خطاب العرش؟
تتجلى عبقرية جلالة الملك محمد السادس في ممارسته للدبلوماسية الواقعية من خلال تبنيه لرؤية استراتيجية عميقة، تنطلق من الوعي بتاريخ المملكة وعمقها الإفريقي، وتقوم على الربط الذكي بين المبادئ والثوابت من جهة، ومتطلبات العصر وتحولاته من جهة أخرى. فالمغرب، كما ورد في خطاب العرش، لم يكن يوما غائبا عن إفريقيا، بل ظل حاضرابأبعاده السياسية والاقتصادية والحضارية والدينية، وبأدواره التاريخية التي تعكس جذورا ضاربة في عمق القارة، وتشكل الأساس الفعلي للسياسات الحالية.
فحتى خلال مرحلة انسحاب المملكة من منظمة الوحدة الإفريقية في الثمانينيات، احتجاجا على انحرافها عن أهدافها النبيلة بفعل هيمنة تيارات إيديولوجية دعمت نزعات انفصالية، لم ينقطع الحضور المغربي عن القارة. بل استمرت المملكة، بقيادة جلالة الملك، في تعزيز علاقاتها الثنائية والمتعددة الأطراف، وتقوية التعاون “جنوب- جنوب”، والانخراط في مشاريع تنموية ذات بعد استراتيجي.
وقد جاءت العودة إلى “البيت الإفريقي” سنة 2017 تتويجا لتحول سياسي عميق عرفته القارة، سمح بعودة النقاش البراغماتي، المبني على المصالح المشتركة والتعاون الحقيقي، بدل الخطابات الإيديولوجية. غير أن عبقرية جلالة الملك تكمن في أن هذه العودة لم تكن مجرد رجوع مؤسساتي، بل استندت إلى رصيد طويل من المبادرات الاقتصادية والإنسانية، والزيارات الملكية المكثفة التي أثمرت عن توقيع أكثر من ألف اتفاقية شراكة، جعلت المغرب فاعلا مركزيا في الدينامية الإفريقية الجديدة.
وفي هذا الإطار، يعد فتح أكثر من ثلاثين قنصلية لدول إفريقية في الأقاليم الجنوبية للمملكة تتويجا لهذا المسار، واعترافا واضحا بالدور المغربي الرائد، وبدعمه التاريخي لحركات التحرر الإفريقية، سواء في الجزائر أو الكونغو أو جنوب إفريقيا. لقد ظل المغرب، منذ مؤتمر الدار البيضاء سنة 1961، وفيا لمبادئه، مشاركا بفعالية في تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية، وفي الدفاع عن قضايا القارة من خلال حركة عدم الانحياز، داعيا إلى تجاوز الانقسامات المفتعلة، وتكريس التعاون التضامني القائم على قاعدة “رابح – رابح”.
ولم تكن هذه الدبلوماسية الواقعية مجرد توجه ظرفي، بل هي امتداد لروابط ضاربة في التاريخ. فالعلاقات المغربية الإفريقية تعود إلى قرون، وامتدت خلال عصور الدول المرابطية والموحدية والمرينية والسعدية، وصولا إلى الدولة العلوية، التي حافظت على علاقات دائمة مع منطقة ما كان يعرف بالسودان الغربي، أي فضاء دول مالي، والنيجر، وتشاد. بل إن التجارة المغربية، حتى في القرن التاسع عشر، كانت أقرب إلى إفريقيا منها إلى أوروبا، وهو ما جسده قرار السلطان مولاي سليمان في بداية القرن التاسع عشر بإغلاق الموانئ المغربية أمام الأوروبيين، واستمرار القوافل التجارية نحو العمق الإفريقي.
هذا العمق التاريخي والجغرافي، سعت قوى الاستعمار إلى قطعه أو تشويهه، بدعم نزعات انفصالية في الصحراء المغربية، ضمن محاولات لعزل المملكة عن محيطها الطبيعي. غير أن القيادة الملكية، اليوم، تعمل بمنهجية على تصحيح هذا المسار، وإعادة توجيه بوصلة العلاقات المغربية الإفريقية نحو الجنوب، تأكيدًا على مركزية إفريقيا في السياسة الخارجية المغربية. وتتجسد هذه الرؤية في مبادرات استراتيجية كبرى، لعل أبرزها “المبادرة الأطلسية”، التي تروم ربط الدول غير الساحلية بالمحيط الأطلسي، وتمكينها من منفذ اقتصادي وجيوسياسي يُعزز سيادتها. كما يشكل مشروع أنبوب الغاز النيجيري–المغربي نموذجا آخر لهذا الطموح، حيث يربط 13 دولة إفريقية بشبكة طاقية واعدة، تساهم في تعزيز الأمن الطاقي، وتحفيز التنمية، ومواجهة التحديات البيئية والاجتماعية.
إن عبقرية الدبلوماسية الواقعية التي يقودها جلالة الملك تتجلى، إذن، في قدرتها على تحويل الإرث التاريخي إلى رافعة استراتيجية، وعلى جعل القيم الإنسانية ركيزة لمصالح متبادلة. وهي دبلوماسية لا تنطلق من ماض مجيد فقط، بل ترسم معالم مستقبل مشترك، قوامه التنمية، والاحترام، والسيادة، والتكامل الإفريقي المنشود.
كيف تساهم المقاربة الملكية في تعزيز التعاون “جنوب- جنوب” مع دول القارة الإفريقية؟
إن المقاربة الملكية في علاقات المغرب مع إفريقيا تمثل تحولا نوعيا في فهم وتدبير التعاون “جنوب-جنوب”، حيث انتقلت من منطق الشعارات الكبرى والإيديولوجيات الجردة إلى مقاربة واقعية، براغماتية، تقوم على النجاعة والنتائج الملموسة.
لطالما آمنت المملكة المغربية بمشاريع الوحدة والتكامل، سواء في إطار العالم العربي، أو الفضاء المغاربي، أو الفضاء الإسلامي الأوسع. لكن التجارب التاريخية أثبتت أن هذه المشاريع، رغم طموحها، غالبا ما باءت بالفشل. والسبب الجوهري في ذلك، كما أشار إليه صاحب الجلالة في مناسبات متعددة، هو أننا كنا نضع “العربة أمام الحصان”: نرفع شعارات الوحدة السياسية، وندعو إلى إسقاط الحدود، من دون توفير الحد الأدنى من المقومات الاقتصادية، أو الإرادة السياسية الصلبة، أو المؤسسات الفاعلة التي تترجم هذا الطموح إلى واقع.
في المقابل، جاءت المقاربة الملكية لتقترح صيغة جديدة، أكثر واقعية وفعالية، تنبني على منطق مقلوب: أن نضع “الحصان أمام العربة”. أي ألا ننطلق من الطموحات السياسية أو الخطابات الدبلوماسية، بل من مشاريع اقتصادية ملموسة، تمكن شعوب القارة من الاستفادة المباشرة من الشراكة، وتعيد الثقة في جدوى التعاون “جنوب- جنوب”.
هذه المقاربة تقوم على أسس واضحة: احترام سيادة الدول، احترام اختياراتها السياسية والمؤسساتية، عدم التدخل في شؤونها الداخلية، تقاسم المنافع وفق مبدأ “رابح – رابح”. وليست هذه المبادئ مجرد إعلان نوايا، بل تم تفعيلها في عشرات المبادرات الملكية التي أطلقتها المملكة في إفريقيا، بدءا من سنة 1999، حيث حرص جلالة الملك محمد السادس على بناء علاقات شراكة قائمة على المصالح المشتركة، بعيدا عن أي نزعة هيمنة أو تصدير للنموذج المغربي.
وقد برهنت هذه الرؤية على فعاليتها في عدد من الدول الإفريقية، خاصة في غرب القارة، حيث ساهمت المشاريع المغربية في مجالات الطاقة، الأمن الغذائي، الفلاحة، الخدمات، التعليم والتكوين، والبنيات التحتية، في إرساء نموذج من التعاون العملي، الذي ينعكس إيجابا على حياة المواطنين الأفارقة.
ولعل المبادرة الأطلسية الأخيرة تجسد بشكل جلي هذه المقاربة، حيث يقترح المغرب فتح منفذ بحري مباشر نحو المحيط الأطلسي لفائدة الدول الساحلية غير المطلة، بما يمكنها من تعزيز سيادتها الاقتصادية، ورفع قدرتها على التصدير والاستيراد، وربطها بالأسواق الدولية. هذا المشروع لم يطرح على أساس دبلوماسي ضيق، بل كتصور استراتيجي شامل، يستند إلى رؤية تكاملية بعيدة المدى.
كما أن عودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي لم تكن مجرد خطوة شكلية، بل كانت ثمرة تراكم لعلاقات عملية وثيقة، وجد فيها العديد من الدول الإفريقية سندا صادقا وشريكا يعتمد عليه. لقد اختارت المملكة، بفضل القيادة الملكية، أن تكون فاعلا في التكتل القاري ليس بالشعارات، بل بالفعل والمصداقية، وهذا ما جعلها تحظى بترحيب واسع داخل البيت الإفريقي. ومن خلال هذه المقاربة، يبدو أن المغرب لا يستعجل التكتلات السياسية، بل يرى أن المرحلة الحالية ينبغي أن تكون مرحلة تأسيس اقتصادي، وبناء شبكات تبادل، وتوحيد البنيات، وتكييف التشريعات. أما التكتل السياسي، والاتحاد المؤسساتي، فهما نتيجة طبيعية لتراكم اقتصادي ناجح، وليس العكس.
إن ما يميز هذه المقاربة الملكية هو توازنها بين المبدأ والبراغماتية، بين العمق التاريخي والواقعية الاستراتيجية، وبين الطموح القاري والإيمان بالخطوات التدريجية. وهذا ما يجعلها، اليوم، مرجعا في مجال التعاون “جنوب- جنوب”، ونموذجا يحتذى في السياسات الإفريقية المعاصرة.
ما هو الدور الذي تلعبه استدامة المصالح في السياسة الخارجية المغربية كما عبر عنها جلالة الملك في الخطاب، وما مدى تأثيرها في ترسيخ حضور المغرب في إفريقيا؟
كما عودنا صاحب الجلالة في مختلف خطاباته، جاء الخطاب الملكي الأخير متزنا، رصينا، نابضا بروح المسؤولية والحكمة، موجها الدعوة إلى تعزيز التعاون الاقتصادي جنوب-جنوب، وتحديدا بين دول شمال إفريقيا وبقية بلدان القارة. إنه خطاب يتجاوز الحسابات السياسية الضيقة ونزعات الهيمنة، ليركز على معالجة التحديات الجوهرية التي تعاني منها إفريقيا، وفي مقدمتها التنمية الاقتصادية العادلة، وتوزيع الثروات بشكل منصف، واستغلال الموارد الطبيعية للقارة بطريقة مستدامة، بعيدة عن منطق الاستنزاف الفوضوي الذي ميز الحقبة الاستعمارية.
ومن هذا المنطلق، يؤكد جلالة الملك أن استدامة المصالح لا تعني فرض الإرادة أو الهيمنة، بل تعني بناء شراكات حقيقية قائمة على الندية والاحترام المتبادل، وتغليب منطق التكامل على التنافر. إن دعوة جلالته إلى إرساء تكتل إفريقي قوي ليست دعوة عابرة، بل هي تعبير عن وعي استراتيجي عميق بحجم التحولات الدولية، وحاجة إفريقيا إلى بناء مصير مشترك، مستند إلى تاريخ طويل من المعاناة المشتركة في مواجهة الاستعمار، الذي لم يفرق بين المغربي والجزائري، ولا بين المالي والتشادي.
وبالرغم من السياق الإقليمي المتوتر، والتهديدات المستمرة التي تتعرض لها المملكة، خاصة على حدودها الشرقية من طرف النظام الجزائري، عبر تجييش الجيوش ودعم حركات انفصالية إرهابية، فإن المغرب، انسجامامع روح الخطاب الملكي، يمد يده للسلام، ويعبر عن استعداد دائم للانخراط في حوار صريح، واقعي، وغير مشروط مع الجارة الجزائر. إنه موقف نابع من إيمان راسخ بأن الشعوب المغاربية، وفي مقدمتها الشعبان المغربي والجزائري، تجمعها روابط تاريخية وأخوية لا يمكن للسياسات الظرفية أن تمحوها.
لكن، وللأسف، يبقى رد الطرف الآخر سلبيا، بل وعدائيا في كثير من الأحيان. ففي الوقت الذي تلتزم فيه المملكة بضبط النفس وتترفع عن الانجرار إلى خطاب التصعيد، تواصل الجزائر نهجها القائم على غلق الحدود، وتغذية الاصطفافات الإيديولوجية، وافتعال الأزمات، في وقت تحتاج فيه المنطقة برمتها إلى استقرار سياسي، وتعاون إقليمي مثمر.
غير أن السياسات العقيمة لا تُقنع الجميع. فمع مرور الوقت، بدأت العديد من الدول الإفريقية تعيد النظر في تموقعها وتحالفاتها، وتدرك أن منطق الشعارات الفارغة لم يعد مجديا، وأن الرهان على المبادرات المغربية البراغماتية هو الخيار الأنجع. وهذا ما تأكد من خلال انسحاب دول مثل تشاد ومالي والنيجر من التكتلات المعادية للمغرب، وتحول دول وازنة من بلدان غرب ووسط إفريقيا إلى دعم المبادرات المغربية التي تضع في صلبها التنمية المشتركة، والمصالح المتبادلة، والاستقرار القاري.