بعد التصريح الأخير المزلزل لستافان ديميستورا المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة حول نزاع الصحراء، والذي نسف جملة وتفصيلا نصف قرن من الأجندة الدعائية والانفصالية الجزائرية، حيث أكد بكل الوضوح اللازم والمشعر بالمرارة من إطالة ذيول الغموض وابتزاز المغرب ببكائية تقرير المصير وتصفية الاستعمار وحق شعب الصحراء غير القابل للتقادم… بأنه ليس تحت هذا الملف المفتعل في بداية المطاف ونهايته إلا نزاعا بين بلدين هما بالتحديد الجزائر والمغرب، وبينهما “مجموعة تدعى ببوليساريو un gruppo chiamato Polisario “، ها هي دولة سويسرا تمضي في ركب الدول التي قررت رفع السرية عن عدد من تقاريرها الرسمية ووثائقها الديبلوماسية المواكبة لحقيقة النزاع المفتعل حول الصحراء منذ نشأته، والتي تؤكد كلها وبشبه إجماع أن لا تعلق لهذا النزاع بدولة محتلة وشعب يقاوم الاحتلال، أو بكل وضوح بين دولة المغرب وجمهورية ناشئة تمثلها حركة تحرير تدعى بوليساريو، بل بنزاع إقليمي بين الجزائر والمغرب استعملت فيه الجزائر قضية تحرير الصحراء غطاء لأعمالها العدائية ورغباتها البئيسة في بسط سيطرتها ونفوذها وهيمنتها على المنطقة.
الوثيقة الديبلوماسية التي رفعت عنها سويسرا السرية هي في ملكية الخارجية السويسرية، وتعود إلى 30 يناير من عام 1978، أي في عز اندلاع الحرب على المغرب وافتعال هذا النزاع المشؤوم حول استرجاعه الشرعي عام 1975 لأقاليمه الجنوبية الصحراوية من المستعمر الإسباني، وهي عبارة عن مراسلة تتضمن تقريرا مفصلا ودقيقا للسفير السويسري بالمغرب آنذاك، رفعه إلى سلطات بلده لإحاطتها علما بالسياق الحقيقي للنزاع بعيدا عن مظاهره الخداعة التي تبرزها التوصيفات والتزييفات التي قدمتها الجهات المفتعلة لهذا النزاع إلى المجتمع الدولي. من بين ما ذكره السفير في مراسلته أن اندلاع النزاع لم يكن في الحقيقة بسبب من مطالب عادية ومشروعة لتقرير مصير الصحراء، بل بسبب من تخطيط جزائري لإعادة رسم مناطق النفوذ في شمال إفريقيا عبر استنزاف المغرب سياسيا وعسكريا واقتصاديا في حرب مصطنعة، وعبر الهيمنة على موريتانيا والتحكم في نظامها والإيقاع بها في شراك التوتر والفوضى والانقلابات والتمردات لتسهيل استضعافها، وبالتالي التمكين للمخطط الجزائري من النفاذ بسهولة إلى المنطقة الأطلسية لغرب إفريقيا.
ومن ضمن التفاصيل الواردة في الشهادة السويسرية على العصر، أن جماعة بوليساريو لا تمت بأي صلة إلى حركة التحرير ولا علاقة لها بتمثيل شعب يرزح تحت الاحتلال، كما يتم تصويره في الحملات الإعلامية والدعائية التي صاحبت نشأة النزاع، بقدر ما هي أداة طوع يد النظام الجزائري لتنفيذ مخططاته العدوانية في المنطقة.
تتفق الوثائق التاريخية والمراسلات الديبلوماسية المسربة والمرفوع عنها السرية، في الشهادة على نفس ما انتهى إليه ديميستورا في أول اعتراف صريح له، وفي عبارات دقيقة وواضحة ومختصرة، ولحظة بوح حر مع معهد أكاديمي إيطالي (ISPI) بشأن حياته الديبلوماسية وخبايا النزاعات الدولية التي كلف في إطارها بمهام أممية سابقة تحرر من تبعاتها، أو مهام أخرى في طور الإنجاز يتكتم على مجرياتها ويتحفظ على الإدلاء بتفاصيلها حفاظا على دوره كوسيط، ومع ذلك فجر بلاطو الحوار بهذه الحقيقة التي خرجت من بين ثنايا العديد من مناورات ديميستورا نفسه لإخفائها والالتفاف عليها والذهاب في الاتجاه المعاكس لها، ألا وهي أن النزاع حول الصحراء هو نزاع جزائري مغربي، مما يعني أن كل البروباغاندا الجزائرية بشأن دورها كطرف محايد في الجوار وملاحظ في المنتظمات والهيئات الدولية، هي لعبة مكشوفة أمام المجتمع والمنتظم الدوليين، بعد إشارة الأصابع في كل المواقف والتحركات القديمة والجديدة للعصابة الحاكمة في دولة الجوار الشرقي المغربي، إلى أن الجزائر هي الطرف الرئيسي المخطط والمحرك والمتحرك في كل هذا النزاع، وأن المجتمع الدولي يعلم ذلك وإن تكتم وتحفظ وتواطأ، والحقيقة الثانية التي اختصرها ديميستورا في عبارة وجود “مجموعة تسمى بوليساريو” يعني أن هذا الطرف الذي يبرزه الإعلام كصاحب حق وكواجهة مباشرة في النزاع مع المغرب، ليس لا حركة تحرير وتقرير المصير، ولا ممثل لشعب ولا دولة، بقدر ما هو مجموعة وظيفية للضغط والابتزاز، وتجمع لأفراد تربطهم مصالح مع دولة تنازع المغرب في أرضه وتتدخل في سيادته، بما لا يخرج عن التصنيف الإقليمي الصحيح لهذه المجموعة في المنطقة كجماعة من “المرتزقة”.
لم يكن ديميستورا في لحظة صفاء ذهني وصحوة متأخرة للضمير، وهو الذي فضحنا أكثر من مرة تواطؤه وتلكؤه في مباشرة مهامه المسندة إليه أمميا للعمل على استئناف الموائد المستديرة بين أطراف النزاع، لبحث سبل الحل السياسي النهائي والواقعي والدائم لنزاع الصحراء، بناء على التطورات الحادثة في مسارات تسويته، وعلى رأسها مقترح الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، والذي تشير كل التقارير الأممية منذ طرحه عام 2007، إلى سموه وجديته ومصداقيته وواقعيته، بل كان الرجل يدرك تمام الإدراك وهو يصرح بما صرح به، أن العالم كله بات يعرف هذه الحقيقة، وأنه وهو في لحظة مغادرته أو انتهاء مهمته، أو إسناد مهمة دعم مرجعية الحكم الذاتي إليه، يمكنه أن يكسب نقط نجاح في مساره الديبلوماسي وعمله على فض نزاع ومنع توتر ووقف حرب، بالإشارة إلى الطرف الحربي العدواني في هذا النزاع الإقليمي الذي لا يمت بأي صلة لا إلى تقرير المصير ولا إلى حركة تحرير.
لقد فشل هذا الديبلوماسي الأممي في مهمة إقناع أو إرغام الجزائر، الطرف الرئيسي في النزاع، للعودة إلى الموائد المستديرة المقررة، وفشل في فرض احترام الأجندات الأممية والمهل الممنوحة والالتزامات المنعقدة على المفاوضات بالأطراف الأربعة التي اجتمعت سابقا في مائدتين مستديرتين بجنيف عامي 2018 و2019 خلال بعثة سلفه هورست كوهلر، وفشل في إدارة الاختلافات والتناقضات المطروحة في طريق الحل السياسي، الإطار الوحيد للتداول والنقاش بين الأطراف المحددة المعنية بهذا النزاع المفتعل، وعلى رأسها الجزائر، وكانت نيته أن يغير المسار لبحث خيارات أخرى غير مطروحة للنقاش ولا تحظى بدعم أممي، بل هي غير واردة أصلا في التقارير الأخيرة لمجلس الأمن منذ تبني مرجعية الحكم الذاتي، وأسقط في يده في أكثر من تحرك له ضد مجرى الأحداث وتطوراتها وضد منطق التاريخ والجغرافيا، ولم يجن من قفزاته، إلا مزيدا من تعقيد مهمته وتجميد النزاع عند النقطة التي تركها فيه سلفه، وهو توقف الموائد المستديرة بسبب من انسحاب الجزائر ورفضها القرار الأممي الداعي لها إلى الانخراط في هذا المسار من غير تأخير أو تعطيل أو مناورة، كان على الرجل أن يتحرك مدة ولايته في اتجاه هذه الحقيقة، وهو المدرك أصلا لكون النزاع جزائريا مغربيا، وبينهما دمية وفزاعة تمسك بها العصابة الحاكمة في الجزائر لترهيب جيرانها وتهديد أمنهم واستقرارهم، ووضع حصى أو حجارة في حذاء المغرب، حتى لا يتحرك إلا بألم ووجع يعرقلان مسيرته التحررية والتنموية والديموقراطية، كما صرح بذلك الزعيم الأسبق للعصابة الحاكمة في الجزائر.
الأمر المؤكد أن ديميستورا اختار، بعد أن تجاوزته تطورات الأحداث وسقطت مناوراته في الحضيض، أن يعود مرغما إلى المسار الصحيح الذي خرج عنه، حتى لا يجد نفسه في حكم المغرد خارج السرب والسياق، وعلى هامش تطورات هائلة وجارفة لحسم دولي وأممي لنزاع وهمي مشوب بمؤامرات ومغالطات وتجارات خسرت كل رهاناتها أمام الصخرة المغربية الصامدة، نزاع طال أمده أكثر من اللازم، واقتضت مصالح الدول التي تواطأت سابقا أن تفضحه وتفضه.
وسواء تعلق الأمر بتصريحات جديدة لديميستورا أو بالوثائق المسربة والمفرج عنها تباعا، والمرفوعة عنها السرية، مثل المراسلة السويسرية المذكورة، والمتعلقة بكشف حقيقة نزاع الصحراء، والمجمعة على حصره في نزاع إقليمي بين بلدين جارين، في إطار الحرب الباردة وفي سياق الأعمال العدائية الجزائرية ضد المغرب، والذي اتخذ من قناع تقرير مصير أرض محررة، ذريعة لتحويل عدوان غاشم على المغرب، إلى مظلمة وهمية لشعب مصطنع في مختبرات العصابة الحاكمة في الجزائر وحلفائها في المنطقة حينذاك، فإن ذلك بقدر ما يكشف الحقيقة ويشهد على الحق المغربي، ويساعد على تبديد السردية الجزائرية العدوانية وإعادة كتابة تاريخ النزاع من مصادره ووثائقه وحقائقه وشهاداته وواقعه، فإنه يدين بقوة تواطؤ المجتمع الدولي على الصمت ومجاراة أطروحة يعرف زيفها وخطورتها مدة نصف قرن من استهداف المغرب في سيادته وأرضه والتآمر على شعبه، بهدف الانتقام منه بسبب مساندته لحركات التحرير في إفريقيا، وبهدف شغله وابتزازه في حقوقه التاريخية السيادية على أرضه وثرواته وموارده.

