إذا كان من درس بليغ على جميع الفاعلين والقوى الحية للأمة والمواطنين استيعابه من الخطاب الملكي السامي بمناسبة افتتاح آخر سنة تشريعية في الولاية البرلمانية الحالية، هو أن هذه السنة هي مختصر وخلاصة العمل في الولاية البرلمانية والحكومية الجارية، وسنة الحصاد إما خيرا وزرعا أو حطاما وهشيما، وفي ضوئها ستتم المحاسبة الشعبية عبر صناديق الاقتراع التي تعطي لصوت المواطن مكانته المؤسساتية الديموقراطية كآلية للفعل والمشاركة والتغيير وصنع القرار السياسي، باختيار ممثليه أولا ثم بتشكيل الأغلبية الحكومية التي ستجسد هذا الاختيار الحر في تنفيذ البرامج المصوت عليها، وتحمل مسؤولية تنزيلها في كل القطاعات المستهدفة بها، ثم جني ثمرات هذا التنزيل وعرض حصيلته التي ستكون موضع تقييم مؤسساتي يمنح الثقة من جديد لهذه الأغلبية أو ينزعها عنها.
وباحترام تام للمنهجية الديمقراطية وتكريسا لدولة المؤسسات وترسيخا لثقافة الربط بين المسؤولية والمحاسبة، وبتقدير تام لصوت المواطن الناخب المحصن من الإسقاط أو الاختطاف أو التلاعب، حرص جلالة الملك على الإشادة باستدامة العمل، وانتظام السير العادي لعمل المؤسسات التشريعية والتنفيذية، والابتعاد عن تكسير الخط المتصاعد والمتنامي في تكريس استقرار المؤسسات ببلادنا، وعدم التشويش على هذا المكتسب الديموقراطي الكبير، مهما كانت العوارض السلبية والاختلالات والعثرات التي يمكن مراجعتها وترميمها واستدراك معالجتها في الزمن المتبقي من عمر هذه الولاية البرلمانية والحكومية، إن توفرت الإرادة الفعلية على رفع الإيقاع وسقف التحدي، بمزيد من السهر واليقظة وتكثيف الجهود للنهوض بالقطاعات المتضررة والمتباطئة في الالتحاق بنظيرتها المتقدمة والناجحة في اجتياز امتحان المصداقية والجدية، وربح رهانات وتحديات التنمية، وليس ذلك بعزيز، ولا بأمر مستحيل، أو بشأن يتطلب سنوات طوال أخرى لا يتسع لها الزمن البرلماني والحكومي الحالي، لأن ما لم تتسع له الأزمنة الحكومية السابقة، وهي أزمنة تقدر بعقود من الزمن، يجعلنا نشك مطلقا في أن مسألة إصلاح القطاعات المتضررة المتصلة بشكل مباشر بهموم المواطنين ومصالحهم، ليست مسألة وقت، وقد أعطي فأهدر، ولا مسألة اعتمادات مالية، وقد وفرت وتبخرت، وإنما مسألة إرادة جماعية صادقة للتغيير والإصلاح والعمل وفقهما، ومحاربة ما أسماه جلالته “كل الممارسات، التي تضيع الوقت والجهد والإمكانات؛ لأنه من غير المقبول التهاون في نجاعة ومردودية الاستثمار العمومي“، ولهذا كانت الدعوة الملكية إلى إحداث التحول أو التغيير في السلوكيات والعقليات وأسلوب العمل أولا، قبل نشدانه في الواقع المعيش “فالتحول الكبير، الذي نسعى إلى تحقيقه على مستوى التنمية الترابية، يتطلب تغييرا ملموسا في العقليات، وفي طريقة العمل، وترسيخا حقيقيا لثقافة النتائج؛ وذلك بناء على معطيات ميدانية دقيقة، وباستعمال التكنولوجيات الرقمية”.
وتسديدا لهذا التوجه في إعطاء الفرصة كاملة لاستكمال الولاية الحالية البرلمانية والحكومية التي هي على أبواب الانتهاء والختم، ومنعا لأي انحراف بها بدعوى التشويش عليها، أو بحث عن طوق هروب ونجاة من المساءلة والمحاسبة، بذريعة إجهاض التجربة وعرقلة المسار الديموقراطي في نقطة الوصول وعند البدء في استقبال أولى ثمرات العمل خلال خمس سنوات من تحمل المسؤولية، بنجاحاتها وإخفاقاتها وحلوها ومرها، قدم جلالته أغلى ما يمكن أن يقدمه في حدود اختصاصاته الدستورية، ومسؤولياته العظمى في حماية البلاد والعباد، وضمان دوام الدولة واستقرار المؤسسات واستمرارها، وكذا ضمان الحريات والحقوق وممارستها، ألا وهو مزيد من دعم العمل الإيجابي وتثمينه وتقديره في مسار تجربة هذه الولاية، والدعوة إلى مواصلته، بل والحث على تكثيف الجهود وعدم إهدار الوقت وتضييعه، وعدم التراخي في استكمال المشاريع والاستثمارات التي انطلقت وأخذت سكتها الصحيحة إلى المستقبل الواعد بالنتائج الطيبة والثمرات الزكية. وفي هذا الإطار ينبغي إحاطة هذه المشاريع والبرامج والاستثمارات بالتقويم التتبعي لحصيلتها والتعديل المتواصل لحركتها وتجنيبها العثرات، فضلا عن تحسين أداء المتدخلين فيها، وتسريع وتيرة العمل لتدارك التأخر المسجل، والتواصل الدائم والفعال مع المواطنين بشأنها، ومن ثمة تجديد التعاقد على الرفع من أدائها وتدقيق مردوديتها، إن على المدى القريب أو المتوسط أو البعيد، أي بتحصيل المواطنين لمخرجاتها التي ستظهر في سلة غذائهم، وفي الخدمات الاجتماعية المتحسنة، وفي محفظتهم المالية.
وذاك أن الإصلاح والتغيير الملموسين ليسا مجرد أماني ووعود حكومية، يمكن التحلل منها بسهولة بذريعة أو باستقالة أو بهروب من المساءلة أو بخلق ظرفية صدامية تحرر الحكومة من استكمال ما بدأته، وليسا كذلك مجرد شعارات ترفع، بل هما التزام تام من قبل الجميع مؤسسات وأفرادا كل من موقعه بأداء دوره وممارسة صلاحياته سواء في التدبير والتنفيذ، أو التشريع والمراقبة، أو تقييم السياسات العمومية، أو التصويت على المنتخبين، أو التنبيه إلى أخطاء، أو فضح ممارسات مشينة ومسيئة لصورة المغرب الحقوقي والديموقراطي والتنموي…
للمواطن صوته الانتخابي الفعال والناجع في اختيار ممثليه ومنتخبيه في الاستحقاقات التشريعية والجماعية، أو في إسقاطهم واستبعادهم من التمثيلية والمسؤولية، وللإعلام دوره في التوعية والتعريف بالمنجزات، وفي تعرية مظاهر الخلل والفساد في الرأي والعمل، وفي إظهار المعايب لفضحها، والمحاسن لبيانها والإشادة بها، وللأحزاب وهيئات ومنظمات المجتمع المدني دورها في التأطير، وفي إفراز النخب القادرة على تحويل المطالب والفعل الاحتجاجي إلى قوة اقتراحية، والتقدم بمبادرات تنخرط في حل الأزمات لا في تعقيدها ومفاقمتها والركوب عليها.
جلالة الملك يريد أن يجعل هذه السنة المتبقية من عمر الولاية البرلمانية والحكومية محكا ديموقراطيا، وسنة اختبار وامتحان أخير للعمل المنجز في محطة حاسمة من مسيرة المغرب الصاعد، بكل الزخم التنموي والديموقراطي الذي رافقه، وسنة تقويم نهائي لحصيلة خمس سنوات من الأداء الحكومي، إن نجاحا أو إخفاقا، وحينها ستكون الكلمة لصناديق الاقتراع وحدها للمحاسبة والمكافأة أو المعاقبة، بالنظر إلى ثمرات العمل ونتائجه وأعذاره المقبولة وغير المقبولة، التي سيُحَكّم فيها المواطن حقه، ليس فحسب في الاحتجاج ورفع الشعارات في وجه الحكومة وأغلبيتها، بل في سحب الثقة والإقالة عبر صناديق الاقتراع النزيه، والصوت الانتخابي الحر والمسؤول. فهل ستسفر السنة الأخيرة من عمر الولاية التشريعية والتنفيذية الحالية، عن ثقافة جديدة في التعبئة لهذا الاستحقاق الانتخابي، وعن وعي وطني ومواطن بأهمية ودور الصوت الانتخابي للمواطن في صناعة القرار وتحقيق التطلعات والاستجابة للانتظارات، وتولي المسؤوليات والأمانات، وهو الصوت الأبلغ في ردع المخالفات والوقاية من الانحرافات، وتثمين خير العمل وأنجعه، وتكريس الثورة الهادئة للملك والشعب ضد مظاهر الفساد، من أجل تخليق الحياة العامة في هذا الوطن الصاعد، الذي لا تخطئ العين أن وجهه قد تغير كثيرا وإلى الأحسن والأفضل، في ظرف قياسي، بفضل المشاريع التنموية الكبرى والاستثمارات المجلوبة والبنى التحتية القوية الاقتصادية والرياضية والسياحية، فهل سيعجزه ظرف سنة مكثفة ومركزة، وفي سياق تحول تنموي سريع، للمرور إلى السرعة القصوى في تقريب الخدمات الاجتماعية والإدارية والاقتصادية إلى المواطنين وتحسينها وتجويدها، والتي لا تتطلب أكثر من تغيير السلوكات والعقليات وتخليق العمل الخدماتي الاجتماعي، وعدم التهاون في أداء الواجب، وكثير من التضحية والصدق والثقة في مؤسسات الدولة والمجتمع.
بهذا لن يكون التغيير نحو تحقيق الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية والمجالية مجرد قول وشعار ودثار، وإنما سيكون فعلا وعملا وممارسة فضلى، ورؤية لنتيجة العمل وثمرته واستعدادا شجاعا وجريئا لتقديم الحصيلة والحساب.

