أصدر المركز الإفريقي للدراسات الاستراتيجية والرقمنة ورقة تحليلية شاملة تناولت مضامين مشروع قانون المالية لسنة 2026، مع مقارنته بقانون مالية 2025، مبرزا التحول في فلسفة التدبير المالي للدولة من منطق ضبط التوازنات نحو منطق هندسة التنمية الترابية المتكاملة، في إطار رؤية ملكية واضحة تهدف إلى ترسيخ العدالة الاجتماعية والمجالية وتعزيز الاستثمار المنتج ودينامية الإصلاح الاقتصادي.
وأكدت الورقة أن مشروع قانون المالية الجديد يأتي في ظرفية اقتصادية واجتماعية دقيقة، تتسم بتحديات متعلقة بالموارد الطبيعية وارتفاع كلفة الأزمات الدولية، لكنه في المقابل يعكس طموح الدولة المغربية نحو تحقيق نمو اقتصادي مستدام بنسبة متوقعة تصل إلى 4.6%، مع التحكم في عجز الميزانية عند حدود 3% من الناتج الداخلي الخام، ما يعزز استقرار المالية العمومية ويكرس الثقة في الأداء الاقتصادي الوطني.
يفيد التقرير الذي توصلت “رسالة 24” بنسخة منه أن مشروع قانون المالية لسنة 2026 رصد غلافا ماليا غير مسبوق قدره 421 مليار درهم مخصصا للاستثمار العمومي، بزيادة تفوق 14% مقارنة مع السنة الماضية، ليصبح أحد أكبر مستويات الاستثمار في العقد الأخير.
ويركز المشروع على تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وتفعيل صندوق محمد السادس للاستثمار كأداة مالية استراتيجية لدعم المشاريع الإنتاجية والمبادرات الجهوية المبتكرة، خصوصا في مجالات الطاقة المتجددة، والبنية التحتية، والرقمنة، والاقتصاد الأخضر.
أما بخصوص الإصلاح الجبائي واستدامة الموارد، فقد واصل المشروع تنزيل القانون الإطار 69-19 المتعلق بالإصلاح الجبائي، بهدف بناء نظام ضريبي أكثر عدالة وفعالية.
ويشمل ذلك توحيد الأنظمة الضريبية، وتوسيع الوعاء الجبائي ليشمل القطاع غير المهيكل، وتبسيط المساطر، وتحسين المردودية عبر محاربة التهرب والغش الضريبي. كما تم تمديد العمل بالمساهمة الاجتماعية للتضامن إلى غاية 2028 لتمويل برامج الحماية الاجتماعية ودعم الفئات الهشة.
ومنحت الحكومة أولوية واضحة لقطاعات الصحة والتعليم، حيث تم رفع ميزانيتهما بأكثر من 8% مقارنة بالسنة الماضية، مع مواصلة تنفيذ ورش تعميم التأمين الإجباري عن المرض والحماية الاجتماعية، الذي من المرتقب أن يغطي حوالي 88% من السكان.
كما يسعى المشروع حسب التقرير إلى توسيع نظام الدعم المباشر للأسر وتطوير برامج الاستهداف الاجتماعي، بما يضمن توجيه الموارد نحو الفئات الأكثر حاجة.
واعتبرت الورقة أن أبرز ما يميز مشروع قانون المالية لسنة 2026 هو اعتماده العدالة المجالية كركيزة للتنمية الشاملة، من خلال إطلاق برامج ترابية موجهة للمناطق الجبلية والواحاتية والساحلية، وتنمية المراكز القروية الناشئة.
ويأتي ذلك موازاة مع تسريع ورش اللاتمركز الإداري والرقمنة، وتطوير حكامة محلية قائمة على المشاركة والمساءلة، بما يعزز استقلالية الجهات والجماعات الترابية في تدبير شؤونها المالية والتنموية.
ويشدد المشروع على ضرورة تحديث الإدارة العمومية وتبسيط المساطر وتحسين جودة الخدمات، إلى جانب مواصلة إصلاح منظومة الوظيفة العمومية وربط التوظيف بالمردودية والكفاءة.
كما تتضمن الورقة إشارة إلى جهود تعزيز الشفافية والرقابة المالية، وتوسيع استخدام النظم الرقمية في المحاسبة العمومية، وتحديث آليات تتبع النفقات العمومية.
مقارنة مع مشروع قانون المالية لسنة 2025
أبرزت الورقة أن الفرق الجوهري بين مشروعي 2025 و2026 لا يكمن فقط في الأرقام أو نسب النمو، بل في فلسفة الإنفاق والتوجيه.
فمشروع سنة 2025 ركّز على تثبيت التوازنات الاقتصادية والحفاظ على الاستقرار المالي، في حين يذهب مشروع 2026 نحو تفعيل التنمية المجالية والهيكلية، عبر جعل الميزانية أداة لإعادة توزيع التنمية بين الجهات وتحفيز الاقتصاد الترابي.
كما يعكس المشروع الجديد انتقال الدولة من دور “الراعية والممولة” إلى دور “المحفزة والموجهة”، في انسجام مع النموذج التنموي الجديد وأهداف الجهوية المتقدمة.
نحو رؤية مالية جديدة
خلصت الورقة التحليلية إلى أن مشروع قانون المالية لسنة 2026 يشكل مرحلة جديدة في تطور السياسة المالية بالمغرب، تتجاوز منطق الحسابات الظرفية إلى منطق الهندسة التنموية المتكاملة، التي توازن بين الاستثمار الاقتصادي، والعدالة الاجتماعية، والإنصاف الترابي.
وأكد المركز الإفريقي للدراسات الاستراتيجية والرقمنة أن هذا المشروع يمثل خارطة طريق واقعية وطموحة، تؤسس لاقتصاد وطني أكثر تنافسية وعدالة واستدامة، قادرة على مواجهة التحديات العالمية والإقليمية، وتعزيز موقع المغرب كقوة اقتصادية صاعدة في إفريقيا والعالم العربي.

