ساعات قليلة تفصلنا عن إنهاء التردد الأممي بشأن إغلاق ملف نزاع مفتعل ومفتوح في الأروقة الدولية، طال أكثر من اللازم، ودخلت عليه أجندات وتصفية حسابات موروثة عن الاستعمار الغاشم، وعن فترات الحرب الباردة البائدة، استطاع المغرب المستهدف بهذا النزاع بعد خمسين سنة من استرجاعه لأقاليمه الجنوبية أن يصمد في وجه كل مؤامرات التقسيم والتقزيم المدعومة بالأموال والأحلاف والتكتلات، والهيئات والمنظمات الابتزازية ولوبيات الضغط، وفي الآن نفسه أهل أقاليمه الجنوبية المسترجعة لتكون منارة هدى وإشعاع في المنطقة، وجوهرة التنمية الإقليمية، وقنطرة عبور للخيرات بين الضفتين المتوسطية والأطلسية، بل لتصبح بعد نصف قرن من العودة إلى حضن الوطن نموذجا للاحتذاء القاري والجهوي في البناء والرخاء.
ومن خلال ما رشح من بنود القرار الجدي الحاسم لمجلس الأمن المنتظر عرضه على جلسة تصويت أعضائه بعد يوم، يبدو أن ثمة توجها دوليا كاسحا أظهرته التوافقات الجارية على قدم وساق، لتكريس وترسيم زخم الدينامية التي خلقها المقترح المغربي للحكم الذاتي كإطار وحيد لحل واقعي دائم ونهائي للنزاع المفتعل حول الصحراء، إذ تتفق لغات العالم اليوم على التكلم بلغة واحدة ومصطلح واحد هما “الحل الوحيد” القابل للتنفيذ، استبعادا لأي تيهان جديد في خيارات أخرى غير جادة وغير واقعية وغير قابلة للتنفيذ، وحسما نهائيا في موضوع الاستفتاء المقبور والمنتهي الصلاحية، بالتصريح بتجاوز الآليات الأممية له منذ تغير لغة القرارات الأممية وقرارات مجلس الأمن في اتجاه بحث التسوية السياسية على أساس مفاوضات الحل السياسي ضمن الموائد المستديرة. ولا يستبعد في هذا الاتجاه أن يسدل الستار عن فصل طويل من الغموض بشأن مهمة بعثة المينورسو الأممية في المنطقة، والتي كانت مرتبطة بمراقبة إجراء الاستفتاء المستحيل، بالبناء على التراكم الحاصل في مسار التفاوض بشأن إقرار الحل السياسي الواقعي والممكن والعملي القابل للتنفيذ ألا وهو: الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، ومن ثمة التوصية لاحقا بعد تمديد قصير، بتحويل مهام بعثة المينورسو ووظائفها إلى مرافقة تنزيل الحكم الذاتي، أو إنهائها والختم عليها من غير رجعة ولا أسى.
في هذا السياق الدينامي المتراكم والمتصاعد نحو ترسيم الحكم الذاتي كحل وحيد وخيار أوحد ونهائي للنزاع المفتعل حول الصحراء، لا تزال العصابة الحاكمة في الجزائر وفي ظل عزلة أطروحتها الانفصالية على الصعيدين القاري والدولي، والفقدان التدريجي لهوامش المناورة ولحلفائها الكلاسيكيين الذين تساقطوا تباعا سواء في أوروبا أو آسيا أو أمريكا اللاتينية أو إفريقيا، تأمل بغبائها في حدوث معجزة في مجلس الأمن بالانقلاب على التوافقات الدولية الكاسحة المتعلقة بسمو الحكم الذاتي وتطابقه مع القانون الدولي. ولأن التفكير الانقلابي عشوائي في قراءة تطورات الأحداث، لا يعلم أن بلوغ المنتظم الأممي هذا المبلغ من تطوير تدخله في النزاع، لم يأت عن طريق انقلاب أو تغيير مفاجئ، وإنما هو حصيلة تجارب وتراكم وتفاعلات، ونظر في الواقع ونقاشات موسعة وقرارات وتوصيات كانت تجري وتصدر تباعا منذ عام 2007، سنة طرح المغرب لمقترح الحكم الذاتي كمساهمة إيجابية من المملكة في طي هذا النزاع المفتعل، بوقاية الجميع من مخاطره، وبتجنيب شعوب المنطقة ودولها وشركائها شرور الحروب والتوترات.
لن تنفع العصابة اليوم سلوكات بائدة وحقيرة بشراء الذمم، أو تسول المواقف مقابل إمدادات بالغاز، ولا قطع العلاقات مع الدول، ولا إصدار بيانات التنديد والتهديد التي لا تكاد تتوقف، وهي على عدد دول العالم بأسره المنضمة إلى جبهة السلام ومغربية الصحراء، كما لا ينفعها حشد الأطفال والشيوخ في المخيمات لاستهلاك الحبوب المنومة والدعايات البالية والأسطوانات المشروخة عن “لا بديل عن السلاح لفرض حق تقرير المصير غير القابل للتقادم”، لأن المصير قد تقرر بشأن الوحدة الترابية للمغرب غير القابلة للتجزيء أو التقسيم، وبشأن كل البدائل والخيارات العدوانية على المغرب، والتي تتجه القوى الدولية الكبرى لتصنيفها في إطار الحركات الإرهابية، وتصنيف رعاتها في إطار الدول المارقة الراعية للإرهاب.
لقد أعطيت الفرص تلو الفرص للعصابة الحاكمة في الجزائر للتخلص من هذا الإرث المخزي الثقيل، والخروج منه بأقل الخسائر الممكنة على الأقل لمصداقيتها وماء وجهها، وكان يكفيها أن تُفعل ما تدعيه من أنها ليست طرفا في النزاع، وأن ملف هذا النزاع معروض حصرا على مجلس الأمن ليقرر فيه، وأن الجزائر تلتزم بما يقرره المجلس والمجتمع الدولي، لكن العصابة أهدرت بغبائها المستحكم، خصوصا مع الثنائي الحاكم اليوم، هذه الفرص في التعاون الإقليمي والدولي لحل النزاع على أساس رابح- رابح، وبلا غالب ولا مغلوب، واختارت أن تثبت عمليا أمام العالم أنها ليست فحسب طرفا في النزاع، بل هي النزاع نفسه، كما اختارت منطق التعنت والغلبة ومقاومة رياح التغيير، وتعريض الدولة الجزائرية ومصالح شعبها للخسارة والفشل، والخزي والعار ولعنة التاريخ والجغرافيا، مع تعريض سكان مخيمات الاحتجاز والتعذيب والاستعباد، لإطالة معاناتهم والمتاجرة في حرياتهم وحقوقهم، والعبث لخمسين سنة أخرى بمستقبل جيل جديد ولد في معسكرات النخاسة بلا هوية ولا كرامة ولا أفق، ولأجل تحرير هؤلاء المعذبين في مسالخ تندوف جاء الحكم الذاتي واعدا بخلاصهم، وبكسر جدار الصمت الدولي عن أكبر سوق للنخاسة في العالم يسمى زورا وبهتانا بمخيمات للاجئين، لم تحصهم جهة دولية ولا تحققت من هوياتهم ولا حررت حركتهم في التنقل واختيار وجهاتهم وتقرير مصيرهم.
كان ولا يزال بإمكان نظام العصابة أن يتجنب الهاوية التي سرع تبون من وتيرة إسقاط الجزائر فيها، لو كان لديه حكماء وفضلاء وعقلاء وأصحاب الأنفة الحقيقية والغيرة الصادقة على مصالح بلدهم وشعبهم ومنطقتهم، ولكن لأننا أمام عصابة نخاسة لا دولة مسؤولة، فإنه لا يمكن أن يصدر اليوم من جزائر العصابة إلا هذا الكم الهائل من البؤس السياسي والحثالة الديبلوماسية التي تتغذى على القاذورات وتتنفس الكراهية.
