رأيمستجدات

الاستثمار في المواطنة

بقلم الأستاذ عبد الله الفردوس //

في غمرة المناطحات بين عدد من الفاعلين في المشهدين السياسي والاجتماعي والتي تتخذ الخطابة والملاسنة وتبادل الاتهامات بالتقاعس وتقاذف المسؤوليات عن إهدار الفرص الإصلاحية والاستحقاقات التنموية، وسيلتها لتصريف الأفعال إلى الماضي والمضارع والأمر، برزت سيدة أعمال في صمت لتلقي حجرا في بركة، تحركت إليها وسائل الإعلام والأنظار والجوارح والمشاعر المدسوسة في غبار الشعارات، فقطعت مسلسلا طويلا وممتدا في جسدنا السياسي مطبوعا بالشكاوى والانتظارية القاتلة والتواكل الممل، ووضعت الأصبع على موطن الداء والجرح في هذا الجسد المتداعي، ألا وهو فقدان حس المواطَنة المسؤولة، وغياب روح المسؤولية الأخلاقية لدى من تؤهلهم مواقعهم الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية أو الثقافية أو الدينية، للتدخل والمبادرة بهدف إيجاد حلول ناجعة وفعالة ومتيسرة لمعضلات الهشاشة والندرة والخصاص التي تعاني منها فئات وجهات مطوقة بأحزمة الفقر والحرمان.
خرجت سيدة الأعمال في المنطقة القروية أولاد فارس بإقليم سطات بتراب جهة الدار البيضاء – سطات، لتضع جزءا من ثروتها الخاصة في جيب منظومة التربية والتكوين، وتوقع اتفاقية شراكة مع السلطات المحلية الترابية والتربوية، لبناء وتأهيل مؤسستين تعليميتين، بعد أن علمت أن قضية التعليم أولوية وطنية بعد قضية وحدتنا الترابية، ولاحظت أن أطفال المنطقة وتلامذتها عرضة للهدر المدرسي بسبب الخصاص في البنيات التحتية والمنشآت المدرسية، ورأت أن بإمكانها كسيدة أعمال وصاحبة أموال لها فيها حقوق وواجبات، أن تفعل شيئا لهؤلاء المتمدرسين من تلميذات وتلامذة العالم القروي المحرومين من ظروف مواصلة تمدرسهم وتعلمهم، وأن تستثمر قسطا من ثروتها في المواطنة الحق والمسؤولة، بدل استثمارها في المقاهي والملاهي، وأن تجني أرباح هذه المواطنة من دعوات الخير التي تلاحقها دنيا وآخرة، ومن ابتسامة الأطفال وفرحهم وسعادتهم المرتسمة على وجوههم ومستقبلهم.
لقد أشعلت هذه السيدة، كغيرها من نساء المغرب الفاضلات ورجاله الصادقين، شمعة في الظلام بدل لعن هذا الظلام، كما يفعل المشتكون والخاملون والمنتظرون والمتواكلون والآكلون للنعم وحدهم السابون واللاعنون لغيرهم، وهم يحسبون أن المواطنة هي مجرد بطاقة هوية وانتماء بالولادة لهذا الوطن، المواطنة انخراط إيجابي وفعلي في هموم الوطن وإسهام في نهضته وانتماء إلى سلوك حضاري يقدس العمل البناء والمبادرة الخيرة واقتسام الخيرات والأفراح والأحزان، ويشعر بالآخرين ويتحسس مواطن الخلل والضعف فيسدها، ومواطن الصلاح والقوة فيدعمها، ولولا أن تفصيل هذه القيم الحضارية لثقافة المواطنة في تاريخنا الوطني والديني ستطول سيرته في حديثنا، لأوردنا منه شواهد سطرها التاريخ بماء الذهب، وحسبنا أن نذكر أن الأعمال الخيرية والوقفية التي كانت منارات شامخة في تاريخنا المغربي لم تترك مجالا من مجالات الاستثمار في الإحسان إلا وغطته في التعليم وبناء الجامعات ودور العلم وسكنى الطلبة ووقف الكتب والتجهيزات، وبناء المستشفيات والمارستانات والحمامات ودور الأيتام واللقطاء ودور تجهيز العرائس الفقيرات والمحرومات ودور الضيافة لعابري السبيل، وتجاوز الإحسان الوقف على حاجيات الإنسان إلى الوقف على الحيوان من الدواب المريضة والهرمة والطيور الجريحة والكسيرة والمهاجرة.
ما أحوجنا في زمن الإصلاح وإرساء النموذج التنموي الجديد إلى استحضار هذه الروح المواطنة العريقة وإحيائها، بإعادة هيكلة ومأسسة الأعمال التطوعية في البر والخير والإحسان وتوجيهها بمفاهيم جديدة وحديثة من اتفاقيات الشراكة والمقاولة المواطنة، والمبادرات التعاونية، وإدماج مبادرات القطاع الخاص والاستثمار في المواطنة ضمن النموذج التنموي الجديد، الذي أكد جلالة الملك محمد السادس بصدده، في خطاب افتتاح البرلمان لهذه السنة التشريعية، على محورية القطاع الخاص في الإسهام في المبادرات التنموية، ودوره في النهوض بالسياسات الاجتماعية.
إن المقاولة المواطنة ليست إلا هذه الروح العاملة على إحاطة عمليات إنتاجها للأرباح، بضمانات الحفاظ على البيئة وعلى رصيد الشغل وعلى الأمن والاستقرار الاجتماعيين، وعلى مصلحة الوطن عامة، أي على مسؤولياتها الاجتماعية التطوعية لاستدامة الخير والإصلاح وتقاسمه، ومسؤولياتها الأخلاقية في تحمل جزء من تكاليف وأعباء التنمية الوطنية الشاملة، التي لا تنهض بها الدولة بقطاعاتها العامة وحدها، بل يسهم فيها المجتمع المدني والقطاع الخاص وكل من لمس في نفسه أن بإمكانه أن يقدم خدمة لبلاده وشعبه ولو بإماطة الأذى عن الطريق.
نستغل هذه المناسبة أيضا للسؤال عن مصير كثير من صناديق الإحسان والتضامن والتكفل التي تم إحداثها خلال المسيرة التنموية الوطنية، وعلى رأسها صندوق الزكاة الذي تم إنشاؤه بأمر من المغفور له الملك الحسن الثاني، بغرض مأسسة عملية تجميع أموال الزكاة التي يحرص المغاربة فرادى على أدائها وصرفها لمستحقيها، وتوجيهها في وجهتها الصحيحة والمنتجة، وضمان استفادة المحتاجين منها. إن الحاجة لتدعو إلى إحياء وتفعيل هذا الصندوق مع مزيد من تدقيق تدخلاته وهيكلة عملياته.
لقد أثار العمل الخيري التطوعي لسيدة أعمال سطات، دهشة المواطنين واستحسانهم، وما سبب هذه الدهشة إلا أن ثمة شيئا مفتقد بيننا، وحينما سيتحول مثل هذا العمل التطوعي إلى سلوك عام في المواطنة، وإلى استثمار من بين الاستثمارات السائرة في المجتمع، سيصير أمرا عاديا وطبيعيا وأصيلا أن يكون كل قادر فاعلا إيجابيا في تنمية وطنه والنهوض بحاجاته، من باب أن مثل هذا العمل التطوعي واجب وطني وديني وإنساني قبل أن يكون مجرد شعور عابر أو يقظة ضمير.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock